«حزب الله» الذراع الأقوى بين الأذرع الإيرانية العسكرية والأمنية في المنطقة، وخطابات أمينه العام حسن نصرالله هي صندوق بريد «إيران المرشد والحرس الثوري»، ومِجهر للقضايا والمسائل المرتبطة بها. من هنا، يسود الاعتقاد دائماً أن الحزب يميل بشكل تلقائي إلى مرشح المرشد والحرس الثوري نظراً لارتباطه العضوي بهما، وهذا أمر طبيعي، انطلاقاً من التصاقه بمرجعية الولي الفقيه.
لكن العارفين ببيئة الحزب السياسية، يقولون إنه منذ تجربة الرئيس محمد خاتمي واشتداد الصراع الداخلي بين المحافظين والإصلاحيين، يتجنب «حزب الله» إظهار تعاطفه العلني مع أي مرشح رئاسي بما يجعله منحازاً لطرف على حساب طرف أخر، في وقت باتت العلاقة بين إيران والحزب مع مرور السنين تتخطى مسألة «ثنائية الثورة والدولة» لصالح اعتبارات تتجاوز هذا المفهوم، مع تحوّله جزءاً من الأمن القومي الإيراني في استراتيجية صنّاع القرار، حيث رئيس الجمهورية بمعزل عن هويته هو واحد من منظومة القرار.
وقرارالحزب النأي بالنفس عن أن يكون جزءاً من أدوات الصراع الداخلي مرده إلى أن المرشد هو ضامن المؤسسات كلها على صعيدي الثورة والدولة وضابط إيقاعها. وهذا ما أمنّ آليات تعامل الحزب مع كلا المنظومتين، وما جعل مؤسسات الحكم في كل المراحل السابقة لا تتجاوزه. وتبرز هنا كيفية تعاطي المسؤولين الإيرانيين لدى زياراتهم لبنان، حيث «يحج» الجميع إلى معقل الحزب في «حارة حريك» في الضاحية الجنوبية لبيروت للقاء نصرالله.
وفي رأي متابعين لمسار الثورة الإيرانية أن التباين الذي يظهر خلال الانتخابات لا يرتكز في واقع الأمر على فلسفة الجمهورية ومنطلقاتها العقائدية الدينية، بل على كيفية إدارة الدولة. مقولة يسلّم بها الحزب، لكنه يعتبر الرئيس حسن روحاني قد «جُرّب» خلال ولايته الأولى، ويتم النظر إليه على أنه شخصية وسطية شكّلت ملاذاً للتيار الإصلاحي أكثر مما هو إصلاحي، وأن الإصلاحيين صوتوا له من موقع «الملاذ لا القناعة» في ظل انسداد الخيارات أمامهم.
تلك القراءة لمسارات التصويت تحمل قدراً كبيراً من الدقة، ذلك أن المراقبين يرون أن فوز روحاني تأمن بفعل أنصاره الراغبين في وصوله من جهة، وبفعل التيار الإصلاحي الراغب بإسقاط مرشح المرشد والحرس إبراهيم رئيسي. لكن هذا التفويض لروحاني في ولايته الثانية يجعله أكثر حرية وأقل تقييداً مما كان عليه في ولايته الأولى. وشكّل شكره لخاتمي وتسميته بالاسم رغم وجود قرار قضائي بمنع ذكر اسمه إشارة إلى أن ثمة نهجاً داخلياً لا بد من أن يتغير.
ووفق خبير في الشؤون الإيرانية، عاش لفترة من الزمن في طهران، فإن كثافة التصويت لروحاني في وجه رئيسي جاءت لتشكل انتفاضة انتخابية ضد النظام وتوجهاته، خاضتها المدن الكبرى التي حصد الإصلاحيون بلدياتها في الانتخابات البلدية الموازية، وأن النظام كان عاجزاً عن استخدام «طريق التزوير» لإدراكه المسبق أن أي محاولات تزوير فاضحة ستؤدي إلى انفجار داخلي.
ويذهب هذا الخبير المناهض لـ «حزب الله» إلى الاعتقاد أن الحزب يكابر في «تقيّته»، ذلك أنه على يقين تام بحقيقة مزاج الشارع الإيراني وجلّه من الشباب الذين لم يعيشوا زمن الثورة ولا تعنيهم معتقداتها. هو يدرك أن هؤلاء غير مهتمين لأسطورة «حزب الله» و الـ«الحوثي» ولا تهمّه سوريا والعراق، ولا مفاهيم تصدير الثورة، لا بل كان عالماً بأن الهجمة الأمريكية لن تحرك عصبيات «الموت لأمريكا» ويستفز المشاعر لمصلحة الالتفاف حول مرشح «المواجهة والتصعيد». وقد عبّر روحاني عن نبض الشارع وخياراته حين وصف فوزه بأنه رسالة إلى العالم بأن طهران جاهزة للتوافق مع المجتمع الدولي وبأن الشعب يتطلع للمستقبل ولا يريد العودة للماضي ولا التوقف عند الحاضر.
ويدور السؤال اليوم حول ماهية العلاقة التي ستحكم إيران روحاني بـ «حزب الله»، وإلى أي مدى سيكون روحاني قادراً على الانفلات من الضغوط التي تواجهها بلاده، والذي حددها له وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، يوم إعادة انتخابه. لائحة المطالب الأمريكية المتضمنة «بدء عملية تفكيك شبكة إيران الإرهابية عبر ووقف دعم الشبكات الإرهابية في المنطقة ووقف تمويل الإرهاب وإنهاء التجارب الصاروخية البالستية».
ورغم أن روحاني رد على الموقف الأمريكي الصادر من الرياض، معتبراً أن «الذين واجهوا الإرهاب هم إيران وسوريا و«حزب الله» الذي هو مجموعة لبنانية انتخبها الشعب اللبناني لتكون في مجلسه النيابي وحكومته، ويلقى تأييداً واسعاً في لبنان بين المسلمين والمسيحيين»، فإن لصيقين بالحزب يعتبرون أن روحاني ما كان يمكنه تجاوز الكلام الأمريكي، على الأقل في لعبة التوازنات الداخلية الإيرانية، حيث يدرك حالة الاستنفار التي تعتري الحرس الثوري، دون أن يعني ذلك أن إيران الدولة ستنحو هذا المنحى.
وفيما تسود تقديرات باحتمال أن يلجأ الجناح المتشدد في إيران إلى التصعيد، مستخدماً «حزب الله» رأس حربة، فإن عارفين بشؤون الحرس الثوري يعتبرون أن الحزب، ونصر الله تحديداً، شريك في صناعة القرار في منظومة الحرس. وهو أضحى متمرساً في سياسة النفس الطويل واللعب على حافة الهاوية التي يتقنها الإيرانيون أنفسهم، ولديه القدرة على تدوير الزاويا بغية تمرير العواصف.
ففي قراءة ما يحمله صندوق خطابات نصرالله من رسائل، كانت لافتة رسالته في خطابه الأخير في «ذكرى حرب تموز»، في معرض رده على قمة الرياض، بأن إيران كانت دائماً جاهزة للحوار. رسالة جاءت في إطار نُصْح المملكة العربية السعودية، بعد شنه هجوماً صاعقاً عليها، بضرورة سلوك طريق الحوار والتفاوض وترك الصراع والحقد والحرب جانباًّ تفادياً للخسائر!.
هي رسالة تريد «إيران الثورة والدولة» إرسالها عبر الذراع العسكرية الأقوى لها خارجياً بأن الآوان للجلوس إلى الطاولة للوصول لتسويات في المنطقة قد حان. وقد قرأها مؤيدون للحزب ومعارضون له، في إطار سياسة الاحتواء لقرار محاصرة إيران وتحجيم نفوذها. ولكن رسالة تلكأت طهران في إرسالها في التوقيت المطلوب يــوم تمّ توقـيــع الاتفاق النووي، واعتقدت أنها قادرة على تحقيق مزيد من أوراق القوة عبر استخدام لعبة الوقت.
اليوم لعبة الوقت ذاتها تقض مضاجع «حزب الله» كونه المستهدف مباشرة وفي حالة دفاع عن موقعه ووجوده. ومعه يجرى طرح سؤال كبير: هل ينتقد روحاني الحزب أم أنه سيكون «ورقة المساومة الدسمة» في يده؟ سؤال لا يملك مقربون من الحزب جواباً جازماً عليه، لكنهم يعتبرون أنه ما دام المرشد ممسكاً بزمام الأمور، فلا داع للخوف. لكن ثمة من يعتبر أن «منظومة الثورة» في ظل التحولات الداخلية والخارجية وأولوية إنقاذ البلاد، لن يكون من مفر أمامها سوى الاستكانة لـ»منظومة الدولة»
المصدر:صحيفة القدس العربي.