هل يمكن أن تكون الجولة الرابعة من محادثات جينيف حول التسوية في سوريا مختلفة جذريا عن سابقاتها؟ يتوقع أن يكون مثل هذا الأمر مرجحا، لكن لا أحد بإمكانه الجزم به بشكل حاسم.
أول ما يجعل هذه الجولة مختلفة أنها الأولى التي تأتي بعد توصل كل من واشنطن وموسكوإلى ما يسمى بوقف الأعمال القتالية، الذي وإن لم يكن كاملا أوشاملا، إلا أنه أوجد وضعا ما مختلفا على الأرض من الضروري أخذه بعين الاعتبار. أبرز ما سجل في هذا الصدد على الإطلاق عودة المظاهرات السلمية في أكثر من منطقة في سوريا تطالب بإسقاط النظام، في حين لم نشهد ولا واحدة تدعمه أوتطالب ببقاء رئيسه. عودة هذه المظاهرات وطبيعة الشعارات المرفوعة فيها، والتي أعادت للتحركات الجماهيرية ألقها الأول، قبل الانزلاق أوالاضطرار إلى رفع السلاح، رسالة قوية إلى الجميع مفادها أن أغلب السوريين، ورغم كل الدم والسجون وعذابات التشريد ومرارات الذل التي صاحبها، ورغم تخلي الجميع عنهم تقريبا، لم يقنطوا أويتراجعوا. هذه المظاهرات السلمية والتي لم يرفع فيها في الغالب سوى علم الثورة رسالة إلى الجميع تقول بكل قوة إن السوريين حسموا أمرهم في هذا النظام ولم تعد هناك من إمكانية تراجع وأن السلاح لم يكن خيارهم لولا بطش النظام الذي رمى بهم إلى ذلك.
ما يجعل هذه الجولة مختلفة أيضا أن الولايات المتحدة وروسيا يأتيان إليها هذه المرة وهما أقرب ما يكون إلى الثنائي الذي قرر أن ينسق إلى حد الإيحاء، الكاذب أوالصادق لا أحد يدري بالضبط، أنهما قررا بالضبط طبيعة التسوية التي يريدانها في سوريا والتي لا تخضع بالضرورة للضوابط التي حددها مجلس الأمن الدولي في قرارته بقدر ما تخضع لما ارتأياه هما تحديدا من تسوية لم تستجب لشيء بقدر ما استجابت لحسابات التنازل المتبادل بينهما.
هذه الحقيقة، أوالانطباع، أوما يراوح بينهما، جعلت عددا من الدول الأوروبية تبدو وكأنها في حيرة من أمرها متلهفة لمعرفة ما يجري فعلا. ولهذا لم يكن صدفة أن يتداعى عدد من قادتها إلى اجتماع مشاورات ملفت في باريس الأخيرة. لم يكتفوا فيه، على ما يبدو، بمحاولة تبادل المعلومات والتقديرات، بل اتصلوا بالرئيس الروسي نفسه في مسعى جماعى للوقوف منه على بعض ملامح الصورة التي يبدوأن الأمريكيين شحوا بها عليهم، أوعلى الأقل لم يطلعوهم عليها إلا بمقدار، خاصة وأن الموضوع السوري تحول إلى قضية داخلية حارقة بالنسبة إلى أكثر من دولة أوروبية، مع تفاقم أزمة اللاجئين التي توصل الأوروبيون أخيرا إلى اتفاق بشأنها مع تركيا بعد جهد جهيد.
تركيا حليفة الأمريكيين القديمة وإيران حليفتهم الوشيكة لا يبدوان أقل ارتباكا، ولهذا لم يكن صدفة مسارعتهما للالتقاء مجددا والتشاور، رغم ما أحدثه الموضوع السوري بينهما من شرخ كبير. التقيا بعد أن أزعجهما هذا التناغم الأمريكي الروسي في الموضوع الكردي، المشتعل حاليا عند الأتراك والقابل للاشتعال قريبا عند الإيرانيين إذا ما استمرت بين واشنطن وموسكو هذه الرعاية الصامتة والدؤوبة للطموحات الكردية في سوريا.
المملكة العربية السعودية هي أيضا لا تبدو أقل حيرة مما يجري، لذا لم تركن إلى حليفتها الدائمة، أمريكا، ولا إلى صديقتها الجديدة، تركيا. كما أنها لم تقف عند عداوتها المتنامية مع إيران، بل سعت إلى خطوة مختلفة بتوجه ولي العهد وزير الخارجية إلى باريس، لعل الصورة تتضح قليلا بالنسبة إلى الرياض، إذا ما كانت اتضحت أصلا للأوروبيين.
ربما يكون آخر من يعلم حقيقة ما يجري الآن هما النظام السوري والمعارضة التي تقف في وجهه. كلاهما حاليا يبدو في سياق من سيخضع، شاء أم أبى لما يجري ترتيبه بين واشنطن وموسكو. قد يكون كل من هذين الأخيرين قد تعهد للآخر بأنه كفيل بفرض ذلك على حلفائه، لكن الأمر لن يكون بالسهولة التي يتخيلاها. القادرون على الإرباك وبعثرة الأوراق كثر، ربما لن يكون من بينهم النظام في دمشق الذي بات تابعا ومسلوب الإرادة بالكامل، ولكن قد يكون من بين هؤلاء ليس فقط “الدولة الإسلامية” و”النصرة”، المقصيين بالكامل من الترتيبات الجارية وهدنتها، بل كذلك باقي التنظيمات المسلحة التي ارتضت بمفاوضات جينيف، فهي قادرة في أي لحظة أن تقلب الطاولة على الجميع. هذا بدون أن ننسى قدرة أنقرة وطهران على وضع العصي في الدواليب إن شعرا بأن الترتيب الجاري الإعداد له تجاهل مصالحهما وحساباتهما بالكامل.
المشهد في محادثات جينيف يبدو ضبابيا جدا ولا مفر من أن تكون أي تسوية محتملة مُطمئِنة بدرجة أو بأخرى. لكل هذه الأطراف مشوشة حاليا، وإلا فالحاجة إلى تكرار العودة إلى جينيف قد لا تتوقف عند حد.
٭ كاتب وإعلامي تونسي
مركز الشرق العربي