عرفت تونس في الآونة الأخيرة إصدار/ أو التفكير في إصدار قوانين تدعم حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين في بلد عرف بأسبقية على المستوى العربي في هذا المجال. فقد صدر قانون يلغي آخر سبقه في الزمن كان يفرض على الطفل الراغبة والدته في مغادرته للتراب التونسي معها، الحصول على ترخيص بالمغادرة من الأب.
كما صدر أيضا قانون جزائي أصبح لا يتوقف بموجبه تتبع من يغرر بفتاة قاصر برضاها ويعتدي على شرفها، إذا تزوج بها لاحقا. فقد كان أغلب الجناة وقبل إصدار هذا القانون يتهربون من العقاب بالزواج من المتضررة، وكانت أغلب هذه الزيجات لا تعمر وقتا طويلا وتنتهي بالطلاق بمجرد توقف إجراءات التتبع ومضي الآجال المحددة التي يسمح بعدها بالطلاق.
كما تم إلغاء منشور كان يفرض على الراغب في الزواج بفتاة تونسية مسلمة أن يعتنق الإسلام ويعلن إسلامه أمام مفتي الديار، وكان ذلك شرطا أساسيا ليتم إبرام عقد الزواج على الأراضي التونسية. وأخيرا دعا رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، في خطوة مفاجئة للرأي العام المحلي وأيضا للخارج، إلى إقرار المساواة في الميراث بين الجنسين وهو ما لقي معارضة شديدة في تونس وخارجها.
دستور مدني
والحقيقة أن القوانين الجديدة التي تم إقرارها أو تلك التي يمكن ان تسن في قادم الأيام، هي من روح دستور تونس الجديد أو دستور الجمهورية الثانية ولا تتعارض معه في شيء. فقد نص هذا الدستور الجديد صراحة على مدنية الدولة التونسية وعلى حرية الضمير وغيرها من الحقوق والحريات، وبالتالي فقد بدا وكأن هذه «الإصلاحات» هي ترسيخ لهذا الدستور «التوافقي» الذي حل مكان دستور1959 الذي تم إلغاء العمل به مباشرة بعد سقوط نظام بن علي.
ورغم ذلك فقد انطلقت حملات النقد والتشكيك من هنا وهناك مستهدفة هذه «الإصلاحات» التي رأى البعض أنها ستجعل الخضراء سباقة في تدعيم حضور المرأة وحماية مكتسباتها مثلما كانت سباقة في الماضي في إلغاء العبودية ومنع الرق ومنع تعدد الزوجات. فيما رأى آخرون أن بعض هذه «الإصلاحات» سيخل بالاستقرار الأسري في تونس مثل إلغاء الترخيص الأبوي في سفر الطفل مع والدته، وسيشجع مستقبلا على تجاوز النص الديني ومزيد مخالفة الشريعة مثل زواج التونسية المسلمة بغير المسلم والمساواة في الميراث بين المرأة والرجل.
لقد كان من الأجدى والأجدر، حسب كثير من الخبراء والمحللين، لو تم التريث قليلا قبل إصدار بعض هذه القوانين ودراسة المسائل من كل الجوانب حتى لا يحصل كل هذا الجدل. فإلغاء الترخيص الأبوي في سفر الطفل مع والدته مثلا سيجعل، حسب البعض، أجنبيات متزوجات بتونسيين يفرون بالأبناء خارج الديار، وقد حصلت حالات في السابق قبل إصدار القانون وتواصل الأمر بعده، ولو أنهم اشترطوا ترخيص الأبوين معا، مثلا، وفي إطار المساواة بين الجنسين، لكان أفضل لمشرعي القانون الراغبين في تلميع صورتهم ولمن سيطبق عليهم هذا القانون.
وفيما يتعلق بالتشريع الذي يجعل تتبع المُغرًر بالفتاة القاصر، لا يتوقف حتى في صورة زواجه بضحيته، يرى البعض أن فيه مبالغة في القسوة على الجاني بعد أن ساوى القانون بينه وبين المغتصب وهي مساواة لا مبرر لها في رأي الكثيرين. فالمغرر بالفتاة القاصر يمكن أن يتقارب معها في السن وأن تكون له رغبة حقيقية في الارتباط وتكوين أسرة، وليس بالضرورة هو شخص استغل عدم نضج الفتاة القاصر ليواقعها برضاها مثلما يستشف من روح هذا القانون.
تشكيك في النوايا
ولم يكتف البعض بانتقاد محتوى هذه «الإصلاحات» بل تجاوزوا ذلك إلى التشكيك في نوايا الفريق الحاكم من وراء إقرارها وقيل الكثير في هذا الإطار في شتى المنابر وفي مواقع التواصل الاجتماعي وحتى من قبل رجل الشارع العادي في نقاشات المقاهي والأماكن العامة. فاعتبروا أن الحديث عن تدعيم حقوق المرأة التونسية ما هو إلا غطاء تجميلي لا غير أيضا متاجرة بهذه الحقوق، وأن الغاية الحقيقية من وراء ما يحصل هي إلهاء الناس عن مشاكلهم الحقيقية وهي مشاكل اقتصادية واجتماعية في الأساس عجز من هم في الحكم طيلة السنوات السبع التي تلت سقوط نظام بن علي عن حلها.
ورأى آخرون أن هذه الإصلاحات هي مجرد محاولات يقوم بها رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي لاستعادة ثقة ناخبيه من الجمهور النسوي «الحداثي» الذي غضب في عمومه من تحالف الباجي مع حركة النهضة، وهو الذي ألهب الحماس في هذه الجماهير خلال حملته الانتخابية بالشعارات المعادية للحركة. ويبدو أن وزير الخارجية الأسبق للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ماض في مخططه بنجاح وفق ما تؤكده استطلاعات الرأي التي جرت في الآونة الأخيرة.
وذهب شق من التونسيين إلى اعتبار هذا التوجه اللافت لتدعيم حقوق المرأة في تونس سببه الرئيسي هو ضغوط الأطراف المانحة التي وعدت تونس بإنقاذها اقتصاديا مقابل «إصلاحات» تشريعية منها منح المرأة التونسية مكاسب وحقوقا إضافية. ويبدو أن رئيس الجمهورية يتعامل مع هذه الأطراف بحذر وذكاء فلا هو أستجاب لإملاءاتها وتدخلها في القرار الوطني السيادي ولا هو رفضها وأعلن ذلك صراحة.
إطار إصلاحي
لكن ورغم كل ما قيل ويقال في هذا الجدل الذي لم ينته بعد، لا يمكن نفي وجود استثناء حداثي تونسي في مجال حقوق المرأة وفي مجالات أخرى سببه شعب تعاقبت عليه حضارات متعددة نهل من موروثها الثقافي وأخذ عنها الكثير منذ ما قبل الحضارة القرطاجية التي يعتبرها المؤرخون بداية لتشكل الكيان التونسي. وتدعم ذلك مع حركة إصلاحية انطلقت مع نهاية القرن الثامن عشر تطورت أفكارها وتجسدت في مجلة (قانون) الأحوال الشخصية الصادرة في خمسينيات القرن الماضي ونصوص قانونية أخرى سابقة لعصرها أثارت الكثير من الجدل عندما تم إقرارها.
ويعتقد التونسيون أن لهم مدرستهم الدينية الزيتونية المالكية الضاربة في العراقة والقدم والتي لها رؤيتها الخاصة للمسائل الدينية ولها اجتهاداتها الفقهية المختلفة عن اجتهادات أطراف أخرى تعتقد أنها تمتلك الحقيقة دون سواها رغم أنها اللاحقة في الزمن مقارنة بالزيتونة. وبالتالي لا يقبل التونسيون بالدروس الدينية والأخلاقية الصادرة عن أي كان حتى وإن كانت من مؤسسات لها سلطة روحية معنوية في بلادها ويمتد تأثيرها خارجها، وهم سائرون إلى النهاية في منهجهم الذي يعتبرونه إصلاحيا كلفهم ذلك ما كلفهم.
كما أن الجغرافيا شاء المرء أم أبى تؤثر على سلوك وتفكير البشر، ومناخ المتوسط ونسيمه العليل شيء وريح السموم الجافة والصحارى القاحلة شيء آخر. وشتان بين ما جاء به ابن رشد وابن خلدون، اللذين نشآ وترعرعا في غرب المتوسط مع خضرة الأرض وزرقة السماء، من فكر حداثي تقدمي سابق لعصره من جهة وبين ما ابتدعه غيرهم في مناطق أخرى من إباحة لسفك دماء البشر باسم الدين.
تنوع ثقافي وعرقي
لكن وفي كل الأحوال لا بد من الإشارة إلى أن هناك تنوعا كبيرا في تونس، فمثلما يوجد حداثيون متفتحون على الحضارات الغربية والإنسانية عموما، يوجد أيضا محافظون رافضون لهذه القوانين التقدمية وللأفكار التي تطرح هنا وهناك وخصوصا في مسألة زواج التونسية المسلمة بغير المسلم. فالبلد مشكل من عدة قوميات منهم العرب والأمازيغ والفينيقيون والاندلسيون وانكشارية الأتراك العثمانيين من شعوب البلقان والقوقاز، وحتى الأوروبيون كان لهم حضور من خلال الرومان والبيزنطيين والوندال، ووجدت لاحقا جاليات إيطالية وفرنسية مهاجرة، حين كان الشمال الافريقي مصدر جلب للمهاجرين، اختلطت بساكنة البلد. كما توجد جالية يهودية وإن تناقص عددها في العقود الأخيرة بفعل الهجرة إلى الكيان الصهيوني وفرنسا إلا أنها موجودة ولها حضورها رغم قلة العدد.
وبالتالي لا يمكن أن يخضع هؤلاء جميعا إلى قانون أحوال شخصية إسلامي موحد رغم أن غالبية السكان تعتنق الديانة الإسلامية بما يفوق التسعين في المئة. لذلك ارتأى التونسيون ضرورة إقرار دولة مدنية يمارس كل فرد فيها قناعاته الدينية ومعتقده دون أن تكون الدولة وصية عليه. فمن تتزوج من غير مسلم هي لا تؤمن بضرورة الزواج بمسلم ولا يمكن بالتالي للدولة أن تتدخل في قناعاتها الدينية وتجبرها على الانصياع لما تراه هي مناسبا لها. في حين أن المسلمة الراسخة في إسلامها والتي لديها قناعة بأن عليها أن تتزوج بمسلم ستتزوج بمسلم ولها حرية الاختيار التي لغيرها.
إن كل ما حصل هو أن الدولة استقالت من دور التحكم في القناعات والوساطة بين المواطن والخالق بعد قرون من تطور الفكر الإنساني، ورفعت وصايتها على البشر الذين هم أحرار في النهاية ولديهم ملكة تمييز تمكنهم من الاختيار وتحمل مسؤولياتهم أمام خالقهم إن كانوا من المؤمنين، وأمام أنفسهم إن كانوا لا دينيين وهم أحرار في هذه الدولة المدنية في الاعتقاد بما يؤمنون به ويرونه صوابا.
لكن الفهم الخاطئ لطبيعة دور الدولة والإغراق في الشعبوية والجهل المقدس وحقد البعض على الخضراء، صور الدولة وكأنها تشجع المرأة التونسية على الزواج من غير المسلمين وهو ما خلق أزمة بين الشعب التونسي وبعض الشعوب العربية التي تعتقد أنها أرفع أخلاقا وأكثر فهما للدين من بلد الزيتونة وموطن الفاتحين الأول من الصحابة والتابعين من مؤسسي مدينة القيروان التونسية التي أشعت علما وحضارة إسلامية على بلدان المغرب العربي وافريقيا جنوب الصحراء والأندلس، شبيهة بأزمة مباراة الكرة الشهيرة التي جمعت الجزائر بمصر وتلاسن فيها الشعبان إلى حد مؤسف يندى له الجبين.
القدس العربي