تستضيف تركيا، اليوم الخميس، القمة الإسلامية الثالثة عشرة، في ظروف شديدة التعقيد تعيشها الأمم الإسلاميّة، وفي خطر هائل لا يتهدّد مواطنيها وأنظمتها فحسب بل يتهدّد أيضاً وجودها نفسه، بدءاً من تركيّا نفسها التي تحتضن القمّة والتي تعيش ضغوطاً هائلة على كيانها الذي نشأ عام 1924، ولهويّتها التي تقلّبت، خلال قرن، بين القوميّة الطورانيّة أيّام حكم جمعية «تركيّا الفتاة»، والتي انتهت بهروب قادتها مع نهايات الحرب العالمية الأولى وسقوط الولايات العربية في أيدي البريطانيين والفرنسيين، واتجاه العلمانيّة الاستئصالية التي مثّلها كمال مصطفى (أتاتورك)، وصولاً إلى حكم «العدالة والتنمية» الحالي الذي مثّل محاولة كبرى لإعادة التوازن بين نظم الديمقراطية البرلمانية والمدنيّة الحديثة الغربيّة والهويّة الإسلامية العريقة الوجود في الروح التركيّة.
غير أن هذا النموذج التركيّ الذي كان ناجحاً حتى عام 2011 الذي بدأت فيه الثورات العربيّة يتعرّض لتهديد كبير لوحدة ترابه واستقراره وقدرته على إلهام المجتمعات الإسلامية الأخرى، وهو أمر يدلّ على وجود تركيّا في قلب المعمعة الإسلامية التاريخية الحاصلة التي حاولت أوروبا و»علمانية» أتاتورك المتطرفة فصل الحاضرة التركيّة عنها.
لا نتوقع من القمة التي تمثّل أكثر من مليار مسلم أن تصدر قرارات جامعة مانعة يمكن أن تغيّر آليات التفكك والكوارث التي يعاني منها المسلمون في أنحاء الأرض، ولكننا نتوقع، على الأقلّ، أن تقوم الدول الفاعلة في القمّة بخطوات عمليّة لمجابهة المخاطر الكبرى التي تتهدد شعوبها، ليس من خلال الانفصال عن العالم على أسس دينيّة لأن ذلك هو الاتجاه الذي يعمل عليه أعداء المسلمين من خلال تنميطهم باعتبارهم مؤمنين بدين يتعارض مع العصر والحداثة والتقدّم، وبتوصيفهم كشعوب وأنظمة متخلّفة ومستبدة ورجعيّة بالفطرة، بل بمجابهة أشكال السيطرة السياسية والعسكرية والثقافية والإعلامية على مقدّراتهم، وصدّ أشكال الإسلاموفوبيا والاستشراق العدوانيّ الذي يخدم الهيمنة والاحتلال والعنصرية بأنماطها العولميّة والمحلّية. وما يجعل هذه المهمّة شديدة الصعوبة أن الكثير من الأنظمة العربية، تستقوي على شعوبها بطرق التنميط العنصرية والطغيان النخبوي الأجنبية نفسها، رغم إخضاعها، هي أيضا لطرق التنميط تلك، حين تحتاج قوى العالم الكاسرة أن تبتزّها وتخضعها.
على المستوى السياسيّ يأمل العرب والمسلمون أن يعمل زعماء الدول الإسلامية على ما جمعهم في المرّة الأولى من خلال دعم كبير للقضية الفلسطينية يتجلّى في تصليب مقوّمات الفلسطينيين السياسية، ودعم اتجاه توافق منظمة التحرير الفلسطينية وحركة المقاومة الإسلامية «حماس» في حكومة وحدة وطنية حقيقية، ومجابهة إسرائيل بقرارات موحّدة تؤدّي إلى تغييرات فعلية على الأرض.
كما يأملون أن تتوحّد القمّة أمام القوى الكبرى التي تحاول فرض أجنداتها الخاصة على حساب مصالح الشعوب العربية، وخصوصاً في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وأن تواجه محاولات الهيمنة الإقليميّة التي حوّلت بعض البلدان العربية ساحات عنف وتقتيل طائفيّة واستتباع للنفوذ الخارجي.
تظهر التطوّرات الأخيرة في المنطقة العربية ملامح تماسك عربيّ إسلاميّ يحاول مواجهة التلاعب بمقدراتها ووقف موجة الانحدار الكبير التي كان الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 أحد نقاطها الكبرى، مما هشّم جهاز مناعة النظام العربيّ القديم، وفتح الطريق أمام الهيمنة الإيرانية على مقدّرات العراق، ولاحقا، الهيمنة على سوريا ولبنان واليمن، وأدّى بالنتيجة إلى ردّ فعل حاولت فيه الشعوب تعديل الاختلال الكبير، ولكنّ ردود الفعل الوحشيّة، في العراق وسوريا، وتفاعل سنوات الجوع والحصار والقتل، والتآمر المخابراتي أنتج تنظيم «الدولة الإسلاميّة» الذي أصبح خزّان انتقام وانتحار وعنف ضد الآخر والذات.
التوازن التاريخيّ المطلوب من الدول الإسلاميّة الفاعلة يتطلّب رؤية استراتيجية تحاول نزع فتيل الأزمات السياسية الطاحنة ووقف الحروب الأهليّة ونزع الشرعيّة عن النظم التي غرقت في الدم ضد شعوبها، وإعادة الأمل للمسلمين بانخراطهم، مع بقيّة العالم، في تقرير مصائرهم، وفي انتظامهم ضمن سيرورة العصر والتمدّن والحرّية.
القدس العربي