هناك رؤيتان لما جرى في تركيا مؤخرا، الأولى يمكن حصرها بما حدث من تآمر لبعض عناصر الجيش التواقين للانقلاب على الديمقراطية، والعودة إلى السلطة تحت شعار كاذب لحماية الديمقراطية والدفاع عن الكمالية والعلمانية، وهم متربصون بأول فرصة تبدو لهم سانحة، خصوصا أن السيد أردوغان كان قد اتخذ مؤخرا مجموعة من الإجراءات التي تعطي الانطباع بالتراجع عن الديمقراطية الشاملة، ومحاولة الاستيلاء على السلطة لشخصه، وهو لهذا السبب كان يعد لدستور يناسب ذلك الهدف، كما تعودنا للأسف في كثير من دول العالم الثالث التي تغير دساتيرها لتلائم طموحات زعمائها.
في هذه القراءة، ردة فعل الشعب كانت أهم حدث على الاطلاق، وأهم من الانقلاب نفسه، ورب ضارة نافعة، فالشعب أثبت للانقلابيين والجيش أنه المقرر الأول والأخير، هذه الرسالة ستصل أيضا إلى أردوغان، وقد تحد من تطلعاته الاستفرادية، بحيث يعيد تركيا إلى بداية عهد حزب العدالة والتنمية، وما شهده من انفتاح على مكونات الشعب التركي، والحفاظ والدفاع عن العلمانية والديمقراطية في كل مناحي الحياة.
القراءة الثانية هي التي تضعها في سياقها التاريخي، والذي بدأ منذ حوالي قرن بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وقيام الدولة التركية الحديثة، وعلاقة هذه الدولة مع جاراتها العربيات وإسرائيل وأوروبا. بشكل عام كانت السياسة التركية أقرب للتحالف مع إسرائيل. وقد ووجه المد الثوري الناصري بحزم من قبل تركيا، خصوصا أن توجهه نحو الإتحاد السوفييتي يتعارض مع التوجه التركي نحو الغرب. حتى أن اول اتفاقية إسرائيلية تركية وقعت عام 1958 بعد انهيار “حلف بغداد” الذي كانت تقوده تركيا، وأرست أسس التعاون الاقتصادي والعسكري والأمني بينهما. استمر هذا التقارب حتى بعد وصول الاسلاميين إلى السلطة وإرساء الديمقراطية، ومر بفترات مد وجزر، ولكنه لم يتزعزع الا بعد الاعتداء الإسرائيلي على السفينة مرمرة، والتي كانت في طريقها إلى غزة لكسر الحصار. ايران الشاه وتركيا وإسرائيل كونت الإطار الاقليمي للحد من طموحات عبد الناصر بالوحدة العربية بالتعاون مع الغرب، ولم يتغير ذلك إلا بعد الثورة الاسلامية في إيران، ووصول أردوغان إلى السلطة في تركيا.
إلا أن الحاجة الإسرائيلية الاستراتيجية لهذا التقارب، كان يضعف مع مرور الزمن، وتطبيع الأنظمة العربية لعلاقاتها مع إسرائيل، أظهر أنها لم تعد بحاجة لتشكيل تجمعات ما ضدها. ولكن انطلاق الربيع العربي والتغييرات الاجتماعية بالوطن العربي، أدت من جديد إلى اثارة التخوف الإسرائيلي من احتمال قيام قوة عربية جديدة، لا يمكن السماح لها بالوجود. كما فعل الغرب والعثمانيون زمن محمد علي باشا أو إجهاض التجربة الناصرية.
هذا بينما الشعوب العربية، مثل الشعب التركي والشعب الإيراني، بقيت وتبقى تواقة إلى الحرية والوحدة والانعتاق من تبعية أنظمتها للآخرين، ورفض التحالف مع إسرائيل، ولا تقبل بانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني أو أي شعب آخر.
انطلاقا من هذا المفهوم، تعمل إسرائيل والدول المتأثرة بالصهيونية العالمية على إعادة تشكيل هذا التقارب من جديد، في انتظار المستقبل، خصوصا وأن العنف المروع المستخدم من الأنظمة العربية، واستثمار وتوظيف القوى الظلامية ضد شعوبها، لم ينه تطلعات هذه الشعوب للحرية.
لا يستطيع المحللون الغربيون ولا المتواجدون في مواقع القرار، التنبؤ بمستقبل الأنظمة العربية على المدى ألطويل، فعلماء الاجتماع يؤكدون وجود تغييرات اجتماعية عميقة داخل الدول العربية، وازدياد الهوة بين الأنظمة وشعوبها، وتراجع الاقتصاد العربي، وانعدام التنمية، وتفشي الفساد والبطالة، وتزايد الهوة بين دول شمال وجنوب البحر المتوسط، بعكس ما يحدث على صعيد العالم قاطبة في مناطق الجوار، وكل ذلك لا يمكن أن يدوم للأبد، لدى أمة غنية بثرواتها وأرضها وسكانها.
لعبت تركيا طوال سنوات الحرب الباردة، دور الحارس للخيمة الأوروبية الأطلسية، وعندما انتهت هذه الحرب، لم يسمح لها بدخول هذه الخيمة، كما كانت قد وعدت. وبقي الدور التركي ضمن الحلف الأطلسي، هو دور الجندي المدافع عن التخوم، وليس العامل الفاعل، وهو ما أدى إلى التردد الأوروبي إزاء مسألة دخول تركيا للأتحاد.
شكل وصول الإسلاميين إلى السلطة في تركيا، وعبر عملية ديمقراطية متكاملة الدافع الرئيس لإبعاد تركيا أكثر عن الحلم الأوروبي، والدفع بها نحو مجالها الطبيعي، أي المنطقة الشرقية الإسلامية، حيث شكلت الجزء المؤسس لهذا الشرق، وحجر الزاوية لتطوره. فقد جرى التعويل على أن يشكل انتشار النموذج التركي في نطاق المنطقة الإسلامية، أمل هذه الشعوب بالانعتاق واللحاق بموكب الحضارة.
هذه الوضعية الخاصة بتركيا، وهي البحث عن دخول الإتحاد الأوروبي والانتماء الطبيعي للشرق والإسلام، أدى إلى نوع من انفصام الشخصية التركية بين هويتين: اوروبية وإسلامية شرقية، الهوية الأوروبية جديدة ومتوازية مع الدولة الحديثة التي أرادت أن تبتعد عن الإرث العثماني، بعكس الهوية الشرقية الضاربة في أعماق التاريخ.
على أن التاريخ الطويل الأوروبي العثماني التنافسي، لا يمكن تجاوزه، لا من قبل الأوروبيين ولا الأتراك أنفسهم، وأفضل ما يمكن أن تصل إليه تركيا هو اتفاقية تبادل اقتصادي بشروط تفضيلية، كما هو الحال مع بعض الدول.
أما الإشكالية الوجودية لإسرائيل، فهي مرتبطة بالتجزئة العربية، وضرورة منع وجود كيان عربي موحد مستقل، لهذا تعمل إسرائيل لتثبيت التجزئة العربية ودعمها (كجنوب السودان) ودعم الأنظمة الاستبدادية العربية (كما حدث بمصر بعد الثورة أو سوريا حاليا). من ناحية أخرى وتحسبا لأي تغيرات مستقبلية غير محسوبة، تخطط أيضا من أجل إعادة التحالفات الإقليمية المحاصرة للأمة العربية، وهذا ما تفعله بشكل واضح من خلال إفريقيا حاليا، ولكن أيضا هذا ما تحاول اعادة إحيائه مع تركيا وإيران.
من هذا المنظار، نرى التحول الإيراني نحو التخلي عن المواجهة مع اسرئيل، تحت الضغط الاقتصادي الهائل من الغرب، والذي أجبر الإيرانيين على تغيير سياستهم العدائية تجاه “الشيطان الأكبر” وحلفائه، والقبول بكل شروطهم، حتى أن التدخل الإيراني إلى جانب النظام السوري، في محاولة لقمع ثورة الشعب السوري، لا يتناقض مع الهدف الإسرائيلي، لذلك لم يوضع على طاولة المباحثات الإيرانية الأمريكية.
أما تركيا بنظامها الديمقراطي، فهي عصية على التطويع، فشعبها هو من يحدد سياسته عن طريق انتخابات دورية، وقد اثبتت الأحداث الأخيرة تمسكه بذلك، وحدها الدول الدكتاتورية كإيران والدول العربية من يمكن تسيير سياساتها من الخارج بالترهيب والترغيب.
من هذه الرؤية، كان لا بد ان تتراجع تركيا عن الديمقراطية، وان تعود إلى نظام استبدادي حتى يسهل عودتها للتحالفات الإقليمية القديمة، واستعادة دورها كحارس للغرب وليس كشريك فاعل. للأسف في الفترة الأخيرة قام السيد أردوغان بالسير في هذا الأتجاه، بالتضييق على المعارضة الديمقراطية والصحافة وإعادة العداء مع الأكراد بعد فترة انفتاح نموذجية.
كل هذا اعطى الانطباع بأن العودة عن الديمقراطية أمر ممكن، وهو برأيي ما سهل التغيير الكبير في السياسة التركية بالنسبة لحصار غزة، والذي كان قد رفعه كشرط أساس لإعادة العلاقات مع إسرائيل، وكذلك السكوت عن الدور الروسي في سوريا، حتى أن آخر التصريحات الرسمية قبيل الانقلاب الفاشل، من طرف الرئيس التركي ورئيس وزرائه، اعادت مخاوف الشارع العربي والشعب السوري من تخلي تركيا عن مواقفها الداعمة له. وقد كدنا ننسى تماما كل هذه الانقلابات بالسياسة بعد احداث الانقلاب العسكري الفاشل، والذي يمكن اعتباره دليل عدم الثقة لداعمي الانقلاب من الغرب والشرق بأردوغان رغم تراجعاته الأخيرة.
قد تكون هذه التراجعات في المواقف التركية قبيل الانقلاب محاولة من أردوغان لتجنب انقلاب بات على ما يظهر مؤكدا، وقد كان المتكهنون بالانقلاب كثر، ولا ننسى موقف بوتين بعد ساعة منه يعرض اللجوء السياسي على أردوغان، وكذلك المستشارة الألمانية، واعتبار كيري وزير الخارجية الأمريكي أن ما يحدث هو أزمة داخلية، ولم يجر اعتبار الإنقلاب من بدايته عملا مدانا دوليا، لكونه ضد حكومة منتخبة ديمقراطيا.
وحده الشعب التركي هو الذي مثل للحكومة التركية الشرعية طوق النجاة، كذلك قطاعات واسعة من الجيش، والتي لم تقبل هذه المرة الانضمام للانقلابيين، كما كان يحدث خلال الانقلابات السابقة.
الضربة التي لا تقتلك ستقويك، كما يقول المثل، نحن ننتظر من السيد أردوغان التراجع عن مواقفه الجديدة المتسامحة مع حصار غزة، والالتزام بالمعايير الديمقراطية الكاملة بالتعامل مع المعارضة، وإعادة الانفتاح نحو مكونات الشعب، وخصوصا الأكراد منهم.
نحن ننتظر من السيد أردوغان أيضا الاستمرار بالانفتاح على الشعوب العربية والاسلامية، مجاله الطبيعي، وهي التي ترى بتركيا تجربة واعدة بالنسبة لهم. تركيا تستطيع أن تكون طليعة تجمع شرقي، قد يعادل في المستقبل قوة الاتحاد الأوروبي الذي لا يشعر الشعب التركي أنه جزء منه، ولا يشعر الأوروبيون بأن تركيا هي جزء منهم.
نحن ننتظر من السيد أردوغان أن يكون على مستوى شعبه العظيم، والذي بجرأته وشجاعته وتضحياته من أجل ديمقراطيته، قد أعاد الأمل لكل المطالبين بالحرية، واليائسين من النصر في سوريا ومصر وفلسطين وكافة الأقطار الإسلامية.
القدس العربي