في الوقت الذي أعلنت فيه “قوات سوريا الديمقراطية” بدء معركتها ل”تحرير الرقة” من تنظيم داعش، حاصر هذا الأخير مدينة مارع، شمال حلب، من جهاتها الثلاث الشرقية والشمالية والجنوبية، لتكمل “سوريا الديمقراطية” هذا الطوق بحصارها من الغرب. وتشكل مارع آخر مركز مهم للمعارضة المسلحة في المنطقة قبل الوصول إلى إعزاز، فالحدود التركية. وهكذا تشاركت السلفية الجهادية و”العلمانية الكردية” في الإطباق على واحدة من أنشط بؤر الثورة على نظام البراميل الكيماوي، في ريف حلب الشمالي، في مرحلتيها السلمية والمسلحة.
ومارع نموذج يكثف الصراع الأوسع في شمال سوريا عموماً، أي منطقة النفوذ التركية المفترضة. تركيا التي وضعت كل ثقلها العسكري لضرب الكرد داخل حدودها، وتشن، على مناطقهم في جنوب شرق الأناضول، حرباً متواصلة منذ عام، فشلت في دعم فصائل المعارضة السورية المقربة منها شمال حلب، وخاصةً بسبب الضغوط الأمريكية الأوروبية الروسية على أنقرة لإغلاق حدودها المشتركة مع سوريا، وقطع أي خط إمداد لتلك الفصائل. كما منعت روسيا أي تحليق لطائرات تركية فوق الأراضي السورية، في إطار التحالف الدولي لمحاربة داعش، تحت طائلة إسقاطها، رداً على إسقاط المقاتلات التركية للطائرة الروسية، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ولم تكتفِ روسيا بذلك، بل هددت أنقرة علناً بتسليح حزب العمال الكردستاني الذي يخوض صراعاً مسلحاً ضد الجيش التركي. وفي منتصف الشهر الماضي أسقط مقاتلو الحزب طائرة هليكوبتر عسكرية تركية، بصاروخ محمول على الكتف، قرب الحدود التركية مع العراق، قيل إنه من أنظمة الدفاع الجوي روسية الصنع. وهكذا يستمر التصعيد بين موسكو وأنقرة على خلفية الصراع في/ وعلى سوريا، وبات الضرب من تحت الحزام، على الأقل من الجانب الروسي.
ويتكامل الدور الأمريكي مع الروسي، سواء في الضغط على تركيا أو في الضغط على المعارضتين المسلحة والسياسية المناهضتين لنظام الكيماوي في دمشق. فواشنطن التي تدفع بقوات صالح مسلم وحلفائه إلى تحرير الرقة من داعش، وتؤمن لهما الغطاء الجوي، لم تفعل شيئاً ضد قوات داعش المكشوفة التي تحاصر مارع. بل يكمل حليفها الكردي طوق داعش على مارع من الجهة الغربية، ويمنع نزوح المدنيين إلى مناطق سيطرته. وبموازاة ذلك تضغط على تركيا للقبول بدخول “قوات سوريا الديمقراطية” مدينة منبج، غربي نهر الفرات، الأمر الذي ترفضه تركيا رفضاً قاطعاً.
من المحتمل أن الولايات المتحدة ستتساهل في إسقاط مارع المتوقع بيد داعش، لتقوم بعد ذلك بقصف المدينة من الجو، تمهيداً لدخول القوات الكردية، لتصبح أنقرة أمام أمر واقع هو سيطرة هذه القوات على كامل الشريط الحدودي الشمالي، بعد القضاء على فصائل المعارضة المسلحة هناك. فإذا أخذنا بعين الاعتبار الهجوم الذي تشنه قوات النظام والميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات، بغطاء جوي أسدي روسي، على ريف حلب الغربي، اتضحت أبعاد الهدف المشترك الروسي الأمريكي الإيراني: الفوز بحلب، مدينةً ومحافظة، وإنهاء المعارضة المسلحة فيها.
بالتوازي مع هذه التطورات، يكثف الطيران الأسدي الروسي غاراته على محافظة إدلب، بذريعة ضرب جبهة النصرة، وقد نجحا في تدمير مستشفيين وعدد من الأحياء السكنية، وفي قتل نحو ستين مدنياً في مدينة إدلب وحدها، إلى الآن. ويفهم من الإنكار الروسي التام لتنفيذ أي غارة على مدينة إدلب، أن عنف الغارات الروسية مرشح للتصعيد في الأيام القادمة.
يبدو أن الروسي بدأ يستثمر مجمل هذه التطورات الميدانية، وبينها أيضاً تقدم قوات النظام في الغوطة الشرقية على حساب الفصائل الإسلامية المتصارعة هناك، في الضغط على “الهيئة العليا للمفاوضات” ليس فقط لإرغامها على العودة إلى طاولة المفاوضات في جنيف، في شروط أكثر صعوبة بما لا يقاس مع الجولات السابقة (فهذه مهمة جون كيري)، بل لتغيير هيكليتها بصورة جذرية، بما يرضي البرنامج الروسي: إخراج ممثلَيْ الجيش الحر والفصائل العسكرية الإسلامية، أسعد الزعبي ومحمد علوش، وإدخال عناصر من مجموعتي القاهرة وموسكو (ويقال مجموعة حميميم أيضاً التي تمثل أجهزة المخابرات السورية مباشرةً). هذا يعني عملياً الاستسلام الكامل لهذه “المعارضات” الهجينة أمام النظام. ليس السؤال هنا هل تقبل الفصائل المسلحة بوصول المفاوضات إلى هذا الدرك من الاستسلام، بل هل تقبل الدول الداعمة لها بتحطيمها على يد النظام وروسيا وإيران، وبمباركة أمريكية؟
إلى ذلك تثير معركة تحرير الرقة من داعش على يد القوات الكردية المتحالفة مع فصائل عربية رمزية، تحت مظلة “قوات سوريا الديمقراطية”، مخاوف جدية من ارتفاع منسوب التوتر الكردي العربي، ليضاف إلى سوابق “تحرير تل أبيض” وضمها إلى فيدرالية “الأمة الديمقراطية” الأوجالانية. وينطبق الأمر نفسه على ما يحدث الآن في ريف حلب الشمالي، وخاصةً في مارع، كما ينطبق على ما يخطط ل”تحرير” منبج وجرابلس من داعش.
القدس العربي