ينبغي أن تكون مجريات الأحداث في سوريا واضحة ومفهومة مهما كانت غريبة أو خلاف المعهود لدى البعض، لأن ما استقر في التحليل السياسي المعتمد على الوقائع العسكرية ومجريات المعارك للخمس سنوات المتوالية، هو أن أمريكا تدخلت في سوريا باستراتيجية ثابتة ودقيقة، وهي الإمساك بخيوطها الكاملة لتقرير مستقبلها من قبل الإدارة الأمريكية وحدها، وفق ما لديها من تصورات للشرق الأوسط بأكمله وبالأخص في التفاهم مع إسرائيل أولاً، والدول الإقليمية ثانيا، والدول الكبرى الأخرى ثالثاً بما فيها روسيا والدول الأوروبية، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا أصحاب التقسيم السياسي السابق للمنطقة بحسب اتفاق سايكس بيكو. ولذلك لا يهم أمريكا من يقاتل في سوريا، ولا كم يقتل فيها من الشعب السوري أو الميليشيات الوافدة، لأن المهم هو محاولاتها إيصال سوريا لما تخطط له الاستراتيجية الأمريكية مهما دخل ساحة المعارك من لاعبين جدد، سواء كانوا من داخل سوريا أو من خارجها، سواء كانوا أحزاباً سياسية أو كتائب عسكرية، أو ميليشيات طائفية أو قومجية أو إثنية أو غيرها، بل إن المتابع لما جرى في سوريا في السنوات الخمس الماضية يدرك ان أمريكا لم تمنع أحداً يريد العبث في سوريا إلا وسمحت له ورحبت به، ولكن بشرط أن يبقى في مضمار الملعب الذي وضعت خطوط الطول والعرض له، ووضعت له مدى مسافة القذائف المستعملة، بحيث لا تُخرج أحد اللاعبين أو تقتله أو تطرده إلا بالكرت الأحمر الأمريكي، وليس بإرادة أحد اللاعبين ولا أحد الفرقاء، سواء كان جيش الأسد أو تابعا لمحوره أو من المعارضة السورية، أو تنظيم الدولة الإسلامية أيضاً.
لقد بدأت الزيارات الأمريكية إلى ميادين المعارك في سوريا منذ السنة الثانية للثورة السورية، فقام السيناتور الأمريكي جون ماكين بزيارة شمال سوريا، ولم يكن يخفي أهداف الاستراتيجية الأمريكية، فقد أعلن منذ تلك الزيارة، لتكن سوريا حرب استنزاف لإيران وجيشها وحرسها الثوري وحزب الله اللبناني وغيره، وفي أواخر الشهر الماضي ايار/مايو كشف قائد القيادة المركزية بالجيش الأمريكي الجنرال جوزيف فوتيل عن سبب زيارته السرية إلى شمال سوريا، بعد أن أثارت هذه الزيارة التكهنات خصوصا أنها تأتي في ظل التحضيرات للهجوم على مدينة الرقة، معقل تنظيم الدولة، وقال: «هدف زيارتي الأساسي كان مقابلة بعض قيادات القوات السورية الديمقراطية في عدد من المواقع بالإضافة إلى مقابلة فريقنا الاستشاري»، وهذا الجنرال الأمريكي هو الذي يشرف على الحرب ضد تنظيم الدولة في شمال سوريا، وقد أشار إلى انه التقى القيادات التي تستعد لمقاتلة تنظيم الدولة في معسكر تدريبي في سوريا تشرف عليه القوات الأمريكية، لكنه لم يفصح عن موقع ذلك المعسكر.
هذه الزيارة وما تبعها من تصريحات تؤكد ان الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تقود العمليات العسكرية البرية وليس الدعم الجوي فقط، ولكنها لا تستخدم جنودها على الأرض إلا بدور استشاري بينما هي تستخدم قوات محلية لمواصلة هذه الحرب، وهذه استراتيجية أعلنت عنها مرار وبالأخص بعد ظهور تنظيم الدولة في سوريا والعراق بتاريخ 10حزيران/يونيو 2014. فأمريكا هي التي تحضر الخطط العسكرية للحرب وتقوم بتكليف الميليشيات المستعدة للقيام بهذا الدور بغض النظر عن حجة تلك الميليشيات المحلية، وبغض النظر عن قوميتهم أو طائفتهم، المهم ان يلتزم لأمريكا بالخطط العسكرية، وقيمة التمويل، والحفاظ على نوعية الأسلحة، فلا يقوم بتـــهريب الأســلحة الأمريكية لأحد ولا بيعها.
وما يميز قوات سوريا الديمقراطية أنها بذاتها تشكلت بمطلب أمريكي من حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يملك ميليشيات باسم قوات وحدات الحماية الشعبية، والتي يغلب عليها السوريون الأكراد، وبعد قيام تلك القوات بعمليات تطهير عرقي في بعض المناطق السورية العربية مثل تل أبيض وغيرها، جرى تشكيل فصيل تابع لقوات سوريا الديمقراطية باسم التحالف العربي السوري، وهو يقاتل بأمرة القيادة الأمريكية أيضا وخططها.
ومن هذه الخطط الهجوم الذي أعلنته قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، ومعها قوات التحالف العربي السوري على مدينة منبخ بتاريخ 31 ايار/مايو الماضي، وقد استطاعت القوات وبدعم جوي أمريكي من استعادة 58 قرية ومزرعة في ضواحي المدينة التي كانت تحت سيطرة «داعش، كما أعلنت عن قتل 74 شخصا على الأقل، بينهم 32 مدنيا، و12 من مقاتلي القوات السورية الديمقراطية و30 عنصرا من «داعش»، وقد أعلنت قوات سوريا الديمقراطية سيطرتها على الطريق الواصل بين منبج والباب، على الحدود التركية.
ومن جانبها أعلنت قوات التحالف الدولي، أنها أجرت أكثر من مئة غارة جوية لدعم معركة تحرير منبج، وقالت في بيان لها: «يقود الائتلاف العربي السوري العملية، وسوف يكون مسؤولا عن أمن منبج بمجرد تحريرها، ويساعد مستشارو التحالف قيادة الائتلاف العربي السوري في القيادة والسيطرة على نقاط التقاطع الموجودة خلف خط هجوم القوات الصديقة، والهدف المعلن هو السيطرة على منبج بوصفها الطريق الواصلة مع الحدود التركية، وذلك للحد من تدفق المقاتلين الأجانب وتقليل خطر داعش على تركيا وبقية أوروبا والولايات المتحدة». وذكر حماية الحدود التركية من «داعش» لا يعني أن تركيا شريكة في هذه الخطط العسكرية وإنما لديها مصلحة مشتركة في حماية حدودها من «داعش» بعد ان تعرضت المدن التركية لقصف صواريخ الكاتيوشا من داخل الحدود السورية، وقد أسقطت عشرات القتلى والجرحى الأتراك، إضافة إلى احداث دمار في الممتلكات وحالة من الفزع وعدم الاستقرار.
إن الحكومة التركية تدرك أن معظم التنظيمات الكردية التي تقاتل في سوريا وحتى السياسية منها، هي على صلة مع حزب العمال الكردستاني الإرهابي، وكثيرا ما حاولت الحكومة التركية اقناع أمريكا أن التحالف مع هذه التنظيمات هو تحالف مع إرهابيين، فهي في النهاية تنظيمات إرهابية مهما اختلفت في أسمائها وأهدافها المعلنة، وهذا يعني ان التعاون الأمريكي معها يضر بالعلاقات التركية الأمريكية، واستخدمت تركيا كل أوراق ضغطها على أمريكا، ولكنها لم تستطع أن تؤمن لأمريكا جنوداً يخدمون خططها، وما حاولته كان بعد ان وثقت أمريكا علاقاتها مع التنظيمات والميليشيات الكردية، وبالأخص بعد ان كادت روسيا أن تسرق هذه التنظيمات الكردية من التبعية للخطط الأمريكية والعمل وفق أجندتها. فخطط أمريكا في إيجاد قوات عربية صديقة قبل التعاون مع الأكراد فشلت في مرحلة التدريب وبعدها، وبعضها سلم الأسلحة التي قدمتها أمريكا له لجبهة النصرة، أي أن أمريكا لم تجد غير الميليشيات الكردية تقاتل معها على الأرض، وإضافة لذلك ذهاب كل مشاريع إرسال قوات عربية أو تركية للقتال في سوريا أدراج الرياح.
ولذلك لم يكن أمام الحكومة التركية إلا السكوت على الأمر الواقع واشتراط ما يدفع الخطر عن تركيا، فقال وزير الخارجية التركي جاويش اوغلو:» إن أنقرة لا تمانع مهاجمة قوات سوريا الديمقراطية مدينة منبج، ولكن بشرط مغادرة وحدات حماية الشعب الكردية المنطقة عقب انتهاء العمليات العسكرية هناك». وأضاف، «إن واشنطن أعطت ضمانات لتركيا بشأن الموضوع»، مؤكداً:» أن حزب الاتحاد الديمقراطي -الذي تعتبره تركيا الجناح المسلح لحزب العمال الكردستاني- ووحدات حماية الشعب الكردية ينفذان تطهيرا عرقيا في المناطق التي يتواجدان فيها»، وأوضح:» أن بلاده لا ترغب بوجود تنظيم الدولة عند حدودها أو أي منظمة أخرى كحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يصدر الإرهاب إلى تركيا».
أما الجانب الكردي السوري فيستطيع أن يجد أمام الشعب الكردي مسوغات تعاونه أو خدمته للجيش الأمريكي في سوريا، بانها لأهداف ومشاريع كردية، وهو ما تعلن أمريكا عن دعمه الآن، فقد أعلنت مصادر أمريكية:»إن ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية، هي حسب الخريطة الحالية لتوزّع القوى في سوريا، القوة الوحيدة التي يمكن لواشنطن الإعتماد عليها في قتال داعش». قد تكون أمريكا مقتنعة بهذه الرؤية لأنها تعلم أنها لا تستطيع الاعتماد على المحور الإيراني لقتال «داعش» لعلم المخابرات الأمريكية أن المحور الإيراني له مساهمات وافرة في تأسيس «داعش» والأطراف العربية والتركية متهمة بذلك أيضاً، أو قد لا تقاتل «داعش» بقسوة بحكم أنها من جذور سنية أو غيرها، ولذلك فإن الجهة الأكثر إخلاصا لقتال «داعش» من وجهة نظر أمريكية هي الميليشيات الكردية، ومع ذلك فليس شرطا أن تنفذ أمريكا وعودها للميليشيات الكردية بإقامة كيان كردي أو غيره، فلا يلزم أمريكا للتحرر من تعهداتها إلا أن ترفع دعمها لهم حتى تتغير ساحة الديموغرافيا العسكرية على الأرض السورية، بفعل القوة الحقيقية المتواجدة على الأرض بعد رحيل المحور الإيراني أو العدوان الروسي أو التدخل الأمريكي أو غيره.
وبالرغم من تقدم العمليات العسكرية للسيطرة على منبج وإخراج «داعش» منها، إلا أن ذلك قد لا يكون أمراً محسوماً أو نهائياً، كما هو الحال في ديالى والأنبار والرمادي والفلوجة أو الموصل في المستقبل، لأن أي قوة يمكن ان يصنعها أهل هذه المناطق قابلة لأن تصبح متهمة بالانتماء إلى «داعش» في المستقبل، وكذلك ما لا يمكن معرفته بدقة حتى الآن هو الموقف العربي والتركي من الخطط الموضوعة لهذه المدن بعد تحريرها من «داعش»، هل سيتم التنازل عنها إلى الأبد لغير أهلها؟ هذا ما لا تملكه المشاريع القائمة اليوم في المنطقة، فتركيا غير مشاركة في عمليات التحرير الحالية، وهي وإن لم تمنعها بالقوة، ولكنها تعلم خطورتها على أمنها القومي في المستقبل إن تركت نهبا لكل طامع من الأحزاب الإرهابية، أو ممن يمولونهم أو يدعمونهم لإرهاق تركيا بالمشاكل الحدودية أو الداخلية.
القدس العربي