تنفست موريتانيا الصعداء أمس بعد ثلاثة أشهر قضتها وهي تعيش على أعصابها منتظرة مرور القمة العربية بصورة اعتيادية وبأقل الخسائر. وقد تحقق لها ذلك حيث استطاعت أن تجمع الممكن من الزعماء العرب، وألا تبقي فجوة في مقاعد القمة سوى فجوة الكرسي السوري، التي لم تتمكن حكومة نواكشوط، من ملئها لصدور قرار سابق بتعليق عضوية سوريا ولأن دول الجامعة لا تزال منقسمة حول هذه القضية.
وإذا كان «فأر إعلان نواكشوط» الذي تمخص عنه جبل القمة السابعة والعشرين لم يختلف لا في لغته ونبرته ولا في شكله ومضمونه عن بيانات القمم السابقة، فإن الذي يهم حكومة نواكشوط هو جانب الاستضافة الآمنة المنتظمة للقمة وهو أمر قد تحقق بالفعل، إذ لم يسجل أي حادث أمني لا قبل القمة ولا أثناءها، كما أن فرق الاستقبال والضيافة قد سيطرت على حركية الضيوف.
وقد ضجت خيمة القمة وقصر المؤتمرات بزغاريد النصر لحظة إسدال الستار على قمة قرر «الرئيس القائد» أنه سيستضيفها رغم عزوف جيرانه المغاربة عن ذلك، فالمهم عند نظام نواكشوط أولا وأخيرا هو أن تتضمن السيرة الذاتية للرئيس محمد ولد عبد العزيز رئاسته للجامعة العربية إلى جانب رئاسته الماضية للاتحاد الإفريقي.
وستسجل الحكومة الموريتانية كالعادة في بيان اجتماعها ليوم غد الخميس مياسم انتصارها في هذا الاستحقاق، كما ستكون للمعارضة الموريتانية تقييماتها وتقويماتها للحدث الذي وجهت بمناسبته نصائح لم تسمع، للقادة العرب.
لكن تظل تقييمات المدونين غير المصنفة مع كل ذلك، بوصلة الحكم الموضوعي على هذه القمة بالخسارة أو الربح.
وقد جزم الأستاذ الجامعي الدكتور أبو العباس إبراهام في تدوينة تحليلية نشرها أمس تحت عنوان «خسارة وربح موريتانيا في القمة العربية»، بأن « حسابات موريتانيا قد تفاوتت بين الربح والخسارة وهي للخسارة أقرب».
وقال «القمة العربيّة قمتان، الأولى للعرب والثانية لموريتانيا، فأما تلك التي للعرب فعبرتها انعقادها، وأما تلك التي لموريتانيا فعبرتُها مكانة موريتانيا، فهي بالنسبة لموريتانيا، وللنظام السياسي فيها، رفع اعتبار الدولة بتأكيدِ أهليّتِها وكفاءتها وإعلاء شأنها ورفع ذكرها».
وأكد أبو العباس «أن موريتانيا ربحت في ضمِّ تنظيم القمة العربية 2016 إلى ديبلوماسيتها الاتفاقية (دبلوماسية المصادفات) التي برزت فيها للسطح مؤّخراً برئاسة مجلس السلم والأمن الإفريقي 2011 ثم الاتحاد الإفريقي 2014 وظهرت فيها بمبادرات جريئة (وإن كانت فاشلة وأحياناً غير نبيلة) لحلّ الأزمات في ليبيا 2011 (بغرض إنقاذ القذافي) وفي ساحل العاج 2011 (بغرض عدم مقاضاة غباغبو المحاصر) وسوريا 2011 (بغرض إنقاذ الأسد)، ومبادرة أقلّ فشلاً في مالي 2014 لفتح حوار بين الأطراف الشمالية المتحاربة».
«أرادت موريتانيا، يضيف المدون، إعلاء الثقة في نفسها بأنها دولة اعتيادية وأهلٌ للثقة، وخصوصاً أنها بذلت جزءً معتبراً من ميزانيتها منذ سنوات في أمنها، وهو مطلب جيوسياسي وشرط للمانحين، كما ركّزت الديبلوماسية الموريتانية- دون إخفاق كبير- على قيّمها التقليدية المعنونة بـ»كرم الضيافة»، إلاّ أن هذه الإرادة لم تقنع كلّ العرب، فلم يأتِ للقمّة زعيم مطلوب رأسه (باستثناء البشير، الذي اعتادَ زيارة نواكشوط أو تميم بن حمد الذي قضى سويعة وغادر، في ظروف لم تُشرح كثيراً، وإن لم تكن خارجة على مسألة النجاح والفشل المناقشة هنا)، وكانت قمة نواكشوط الأقل حضوراً من قبل الزعماء العرب منذ عقود، وأكثر من هذا قُلِّصَت مدّة القمة من يومين إلى يومٍ واحد، وقد اعتذر الزعماء العرب الحاضرون عن حضور اليوم الثاني من القمة بسبب «الانشغال»، بعضُهم لم يُغبِّر قدمه في البلاد لساعة، ولم تغب الهواجس الأمنية في كلِّ هذا».
وزاد المدون «نشرت صحف مصرية وإسرائيلية (اليوم السابع وإسرائيل تايمز، مثلاً، وهو ما نقلته أيضاً الأسوشيتد برس، وإن كانت تحوم حوله شكوك) أن سبب غياب السيسي كان دوافع أمنية تتعلّق باستشراف محاولة اغتياله، ومن الأرجح أن إحجام ملك السعودية ورئيس دولة الإمارات، اللذينِ استُعدّ لهما حتّى آخر لحظة (وكانت القمة، بمعنىً ما قمتُّهما، وقد حُجِزت إقامتهما وكُسرِت دورُها المجاورة وأُمِّنَت طرقها المؤدِّية وأعيد تسمية الشارع الرئيس على «زايد»)، يعود لهواجس أو استخبارات أمنية».
وتابع «والحال هذه، لم تنجح موريتانيا في تسويق نفسها أنها ملاذٌ آمن، ومن نافل القول إن موريتانيا التي تضعها الدول الأوربية في المنطقة الخطرة على رعاياها ما زالت لم تكسب، والحال هذه، ثقة الغرب في أمنها».
« أرادت موريتانيا، يقول أبو العباس، أن تستخدِمَ فرصة القمة لفتح نقاش حول عروبتها ومركزيتها العربية والفرار من عقدة الدونية، وكانت القمة ستكون فرصة إلاّ أن النقاش اختُطِفَ. وانعطفَ التركيز على التصريحات التي قام بها وزير الصحة اللبناني والردود عليه إلى التتفيه والتعظيم من قيمة موريتانيا أو الاعتذار عنها، وقد أخذَ فيصل القاسم، ديماغوجي عمومي هو الآخر، بالنقاش منعطفاً آخر عندما سخر من لحن الرئيس الموريتاني وأخطائه في اللغة العربية، وبطبيعة الحال فقد أعطى الوطنيون الموريتانيون بردودهم الطويلة قيمة محورية، وإن غير مقصودة، لهذه التصريحات. وهكذا تمركزت النقاشات التي انخرط فيها من يوصفون- وهذه مأساة الثقافة العربية – بالمثقفين العموميين (كخديجة بن قنة وفيصل القاسم وفي شكل أقّل عبد البارئ عطوان وعبد العزيز التويجري، والآن وائل أبو فاعور) على عقدة الدونية للوطنيين الموريتانيين، التي أرادوا الفرار منها بالقمة، وإضافة إلى هذا فإن منابر كوسم «عذراً موريتانيا» على تويتر، كانت تؤكِّدُ دونية موريتانيا حتّى وهي تعتذر عنها».
وأضاف «كانت استراتيجية موريتانيا هي ربط نفسها بالقمة العربية والاستفادة من هذا المنعكس الشرطي، وكان الشعار السائد هو أن نواكشوط «عاصمة العرب»، يبدو لي، يقول أبو العباس، إنّ هذا المسعى لم يتحقّق كليّةً، مثلاً وسم «القمة العربية» على تويتر، الأعلى فيه اليوم والذي كسر احتكار «تركيا» للصدارة منذ أسبوع، يُحيلُ نادِراً إلى موريتانيا، وفي المقابل يُناقِشُ الهواجس العربية المألوفة، المستنهضة للهم والباكية على الأطلال، وبدل أن ترتبط نواكشوط بالقمة فإن تسمية «قمة الجرذان»، اسمها الأشهر، دخلت التاريخ، أو على الأقل غوغل».
وحول استفادة موريتانيا اقتصاديا من القمة أوضح ابو العباس «أن موريتانيا لم تربح من المانحين العرب غير سيارات مصفّحة وما يُقالُ إنه هبات سعودية لإعمار الطرق، قيل إن السبب هو ضيق الوقت، وإن كانت عدم القدرة على الاستشراف هي الأصوب، أيضاً لم يبدُ أن الضيافة صُمِّمت لضخّ المال في السوق المحلي. (…)، رغم ذلك فلا يمكن إنكار أن طفرة كينزية حصلت بقدوم أكثر من ألف ضيف للعاصمة.. لقد أهدت قمة «المؤتمر الإسلامي» بنية فندقية وطفرة استهلاكية للسنغال قبل عقد.. ليس هنا»، حسب تعبير المدون.
وتناول في تدوينته التحليلية علاقة المغرب بإخفاق القمة، فأكد «أن موريتانيا لم تظهر قُدرة على التحكم في فتيل الصراع مع المغرب بحيث اشتعل في اللحظة غير المناسبة، ويُبالِغ البعض في نسبة إخفاقات القمة إلى الدور التخريبي المغربي».
وأضاف الكاتب «رغم أن موريتانيا لعبت لصالح المعسكر المصري (في دعم عودة مصر السيسي للاتحاد الإفريقي)، إلاّ أنها تلقّت مقابلاً أبسط منها. صحيح أن السيسي علّق على رقبة الجنرال عزيز قلادة النيل، وهي أعلى وسام استحقاق في مصر، إلاّ أنها دون ما أمله الجنرال عزيز من حضور السيسي للقمة، خصوصاً ان حضوره- على سوء سمعته شعبياً- كان سيكون وازناً، وكان سيرفعها من مقام الحضور المتوسط إلى ما فوق المتوسط».
ويرى المدون حبيب الله ولد أحمد «أن قمة نواكشوط كانت أنجح القمم العربية الفاشلة أصلا وفرعا، فلم تشهد ملاسنات ولا مهاترات ولا أية مشاكل من أي نوع تماما كما أنها ككل القمم السابقة لم تحقق للعرب أملا ولم تخفف عنهم ألما».
على هذه الإيقاعات والتقييمات عاشت موريتانيا يومها أمس التالي ليوم القمة، وهي لاتزال سكرى وما هي بسكرى ولكن يوم القمة شديد.
القدس العربي