تقرير منظمة «العفو الدولية»، الذي صدر مؤخراً بعنوان «المسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسوريا»، أثار ردود أفعال واسعة، بالنظر إلى ما يوثقه من الأهوال والفظائع داخل سجن واحد. وكان جديراً بالانتباه أنّ الاهتمام بهذه الوثيقة اقتصر، عملياً، على وسائل الإعلام المختلفة، ووسائط التواصل الاجتماعي، وبعض التعليقات الدولية غير الرسمية (كان في عدادها موقف نوّاب في الدوما الروسية، أشبعوا التقرير ذمّاً وطعناً في مصداقية المنظمة!). أمّا على أصعدة الحكومات، شرقاً وغرباً في الواقع، فإنّ وقائع «المسلخ البشري» الرهيبة قوبلت بصمت مطبق، أو يكاد؛ ولم يكن العكس ـ أي الشجب والإدانة، في الحدود الدنيا ـ منتظَراً، في كلّ حال.
ذلك لأنّ هذا التقرير ليس الأوّل من نوعه، رغم أنه هذه المرّة يأتي على تفاصيل أشدّ وحشية؛ إذْ سبق للمنظمة ذاتها أن أصدرت تقارير حول سجون النظام السوري ومعتقلاته، طيلة عقود «الحركة التصحيحية»، كما وثّقت تقنيات التعذيب، وسجّلت شهادات شخصية لمعتقلين سابقين، ورسمت خرائط مفصّلة لمواقع التعذيب وأسماء الفروع الأمنية؛ بل ورصدت أسماء بعض الضباط الذين أشرفوا على ارتكاب جرائم حرب موصوفة، أو مارسوها بأنفسهم أيضاً. كذلك أصدرت عشرات البيانات التضامنية مع معتقلي الرأي والضمير، وأطلقت حملات عديدة تميط اللثام عن، وتفضح، أعمال عنف محددة، وتصفيات جسدية، ومجازر جماعية.
منظمة أخرى بارزة، هي «هيومان رايتس ووتش»، أصدرت في سنة 2015 تقريرها الشهير «لو تكلم الموتى: الوفيات الجماعية والتعذيب في المعتقلات السورية»؛ والذي تابع مقتل الآلاف في معتقلات الفروع الأمنية 215، 227، 216، 235، 248، 220، أقبية المخابرات الجوية، وسجن صيدنايا العسكري. كما حلل التقرير مصائر 28707، من أصل 50 ألف صورة قتيل، سرّبها المصوّر المنشق الذي عُرف باسم «قيصر»؛ واستخلص النتيجة التالية: هذه الصور «لا تمثل سجلاً شاملاً للوفيات في المعتقلات في منطقة دمشق في الفترة الزمنية التي التقطت أو جُمعت فيها هذه الصور». ذلك لأنها «ليست عينة عشوائية، لكن تمثل الصور التي توصل إليها قيصر واحتفظ بنسخ منها، حين شعر أنه يستطيع أن يفعل ذلك، بقدر من الأمان النسبي. لذا، فإن عدد الجثث في مراكز الاعتقال، كما ظهر في صور قيصر، لا يمثل إلا جزءاً من عدد من توفوا في مراكز الاعتقال في دمشق، أو حتى في هذه المنشآت بعينها، خلال فترة الـ 27 شهراً التي التقطت فيها الشرطة العسكرية والطب الشرعي هذه الصور».
وما دام سجن صيدنايا هو موضوع تقرير «العفو الدولية» الأخير، فمن المفيد العودة إلى تقرير آخر عن المعتقل ذاته، أصدرته «اللجنة السورية لحقوق الإنسان»، حول المجزرة التي شهدها السجن صباح 5 تموز (يوليو) سنة 2005: وصلت قوة تعزيز إضافية من الشرطة العسكرية تقدر بين 300 إلى 400 شرطي، وبدأت حملة تفتيش بطريقة استفزازية، تخللتها مشادات كلامية مع المعتقلين السياسيين، ثم إلقاء نسخ من القرآن على الأرض والدوس عليها، مما أثار احتجاج المعتقلين الإسلاميين الذين تدافعوا نحو الشرطة، فأطلق هؤلاء النار وقُتل تسعة من المعتقلين على الفور (زكريا عفاش، محمد محاريش، محمود أبو راشد، عبد الباقي خطاب، أحمد شلق، خلاد بلال، مؤيد العلي، مهند العمر، خضر علوش). إثر ذلك عمت الفوضى في السجن، وظنّ المعتقلون أنهم على أعتاب مجزرة تدمر جديدة، فبدأوا بخلع الأبواب لمواجهة الشرطة العسكرية، التي فتحت عليهم النار مجدداً، مما أوصل عدد القتلى إلى نحو 25 قتيلاً.
الجديد الذي اكتنف هذه المجزرة، من نظام عوّد الشعب السوري على ارتكاب المجازر، أنّ رأس النظام، بشار الأسد، اسنُقبل في باريس، عاصمة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»! لكنّ نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي يومذاك، لم يكن أوّل مَنْ يراقص طغاة الشرق الأوسط، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا، أم في عقودها الوسطى (أوّل زيارة للأسد الأب تمّت في عهد فاليري جيسكار ـ ديستان، 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان)؛ هذا إذا اعتبر المرء الأنشطة الدبلوماسية في العقود الأولى بمثابة تمرينات مبكّرة واستطلاعية على ما ستطلق عليه التنظيرات الديغولية صفة «السياسة العربية لفرنسا». وفي وجهة أخرى لنقاش الواقعة تلك، لعلّ المرء لا يبالغ إذا اعتبر خيار ساركوزي في الانفتاح على النظام السوري أقرب إلى السلوك الطبيعي، المنتظَر، غير المستغرب البتة، من ذلك الرجل بالذات.
فمن جانب أوّل، كلّ ما كان ساركوزي يعرفه (كما صرّح، بنبرته المعتادة في السخرية الرواقية الغثة) أنّ سوريا بلد متوسطي، وليس ثمة سبب واحد يبرّر عدم دعوتها إلى القمة المتوسطية؛ غير المكرّسة (في حدود علمه كما قال، وعلم الجميع كما نقول) لمناقشة احترام أو انتهاك حقوق الإنسان على ضفاف المتوسط. وهذا منطق صوري سليم تماماً، وكان استبعاد سوريا من هذه القمة هو الذي سيكون القرار الشاذّ غير الطبيعي. ومن جانب ثانٍ، مَنْ الذي يعيب على ساركوزي دعوة الأسد إلى منصّة الاحتفال بالثورة الفرنسية، يوم العيد الوطني لفرنسا، إذا كان الحابل سوف يختلط بالنابل على تلك المنصة: ديمقراطيات غربية، ودكتاتوريات شرقية أو أفريقية، جنباً إلى جنب مع إسرائيل… «واحة الديمقراطية» في الشرق الأوسط؟
وضمن المنطق الصوري إياه، كيف يستقيم أن يُدعى زعيم من هؤلاء، ويُستثنى آخر؟ لهذا، وبصرف النظر عن قيمته الأخلاقية العالية، فإنّ النداء الذي وجهته إلى ساركوزي ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها «العفو الدولية»، و»هيومان رايتس ووتش»، والاتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان، والشبكة الأورو ـ متوسطية، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب…)؛ ظلّ، كما ينبغي له أن يظلّ، حبراً على ورق في ما يخصّ مطلب الفقرة الأولى: «تناشدكم منظمات حقوق الإنسان الموقعة على هذه الرسالة إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في ذلك البلد».
قبل ساركوزي كان ديغولي آخر هو الرئيس الأسبق جاك شيرك، الأعرق ممارسة للسياسة من ربيبه ساركوزي، قد استقبل الأسد الابن، في خريف 1999، بصفته الوحيدة المتوفرة آنذاك (نجل حافظ الأسد)؛ وذلك تلبية لرغبة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري (الذي كان، في حينه، بين أخلص رجالات حاكم دمشق، الأسد الأب)، على سبيل تدريب الفتى الابن في ما ينتظره من مهامّ رئاسية. غير أنّ الدعوة، بمعزل عن إرضاء الحريري، كانت تعكس المزاج الحقّ للرئيس الفرنسي في ما يخصّ نظام آل الأسد؛ إذْ، للتذكير، كان شيراك هو الرئيس الغربي الوحيد الذي شارك في جنازة الأسد، وكان قبلها قد كسر عزلة الأخير الدولية حين دعاه إلى زيارة باريس رسمياً في صيف 1998، كما كان أوّل من أسبغ شرعية سياسية وأمنية على وجود القوّات السورية في لبنان خلال خطبة افتتاح القمّة الفرنكفونية في بيروت 2002.
ولا تُقتبس باريس هنا، في هذه الأسطر، إلا لأنها تُعرّف عادة بمصطلح حقوق الإنسان؛ غير أنّ في وسع المرء اقتباس الغالبية الساحقة من العواصم الغربية، والشرقية أيضاً: من واشنطن وموسكو، إلى لندن وبرلين وروما. كلهم فضّلوا التعامل مع «الشيطان الذي يعرفونه»، خادم مصالحهم الأمين، الطيّع التابع الخنوع؛ ولتذهب، إلى الجحيم، تقارير منظمات حقوق الإنسان، وحشرجات سجناء الرأي. لقد أسمعتْ لو أنها نادت الأحياء من قادة الديمقراطيات، رافعي ألوية حقوق الإنسان!
القدس العربي