كان استقبال الحكومة التركية للاجئين السوريين منذ بداية الصراع في سوريا في مارس 2011 طبيعيا، ولأسباب إنسانية فقط، رغم أن حكومة الأسد طالبت الحكومة التركية في ذلك الوقت بإغلاق الحدود وعدم السماح للفارين من دخول تركيا.
ولكن الحكومة التركية، رغم علاقاتها الحسنة مع النظام السوري في ذلك الوقت رفضت الطلب السوري بسبب شدة القمع والبطش والقتل، الذي كان يتعرض له الشعب السوري الأعزل، ولا يمكن للحكومة التركية أن تتخلى عن مسؤولياتها الإنسانية في حماية من يلجأ إليها، وإلا فإنها ستكون مشاركة للنظام القمعي، وهو يقوم بقتل الشعب السوري. وكان في تقدير الحكومة التركية أن أزمة اللاجئين السوريين قد تصل إلى عشرات الآلاف، ولمدة زمنية قصيرة فقط، فلم يكن متوقعا أن تطول أزمة الشعب السوري لخمس سنوات، وبالفعل فقد انتصر الشعب السوري على نظام الأسد بحدود منتصف عام 2012، وكان الأسد على وشك السقوط، لولا الرغبة الأمريكية برفض سقوطه، واستثمار أمريكا واستغلالها القمع الأسدي، والحرب الطائفية التي شارك فيها الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني في إطالة الصراع في سوريا لخمس سنوات، بدون اكتراث من امريكا بالمجازر والمذابح التي لحقت بالشعب السوري، حتى لو استعمل الأسد الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، وبالتالي فلا غرابة ألا تقف امريكا الموقف الإنساني تجاه اللاجئين السوريين وهم يملأون المخيمات في تركيا ولبنان والاردن وغيرها، بل وهم يلجؤون إلى أوروبا وكل دول العالم، بعد أن فاضت بهم دول الجوار، وتفاقمت بهم مآسي التشرد وضياع مستقبل أطفالهم وأبنائهم.
كان المأمول ان تقوم أمريكا بمنع أسباب اللجوء المتزايد بالملايين من سوريا أولاً، وكانت قادرة على ذلك لو لم تحرم الشعب السوري من تحقيق النصر في وقت وجيز، ولكنها اختارت ان تستثمر الصراع في سوريا لرسم مخططاتها في الشرق الأوسط، وبعد ان أخذت نفسا واسعا للتفكير فيما ينبغي عليها فعله بعد صدمتها الأولى بثورة تونس ومصر، وما أعقبها من نتائج مذهلة أسقطت رئيس دولتين هما بن علي التونسي ومبارك المصري خلال أيام وأسابيع قليلة، فأدخل ذلك دوائر الدراسات والاستخبارات الغربية والأمريكية في مراجعة سياستها وخططها في التعامل مع شعوب المنطقة، خاصة ان نظام الأسد أبدى قسوة وقمعاً لم يكونا متوقعين، وكان الأكثر غرابة ودهشة أن يثبت الشعب السوري امام كل هذا البطش ويصبر، بل ويطور ثورته من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، بعد ان انشق آلاف الجنود والضباط من الجيش السوري ووقفوا إلى جانب الشعب وثورته.
كانت التصريحات الأمريكية بعد بضعة أشهر من الاحتجاجات الشعبية بأن الأسد فقد شرعيته، وأخطأ الناس في تفسير هذا التصريح للرئيس الأمريكي أوباما في ذلك الوقت، فظن البعض أنه تأييد للثورة الشعبية وتنديد بالأسد، ولكن القراءة المتأخرة قد تفسر هذا التصريح بأنه توريط للشعب السوري، والدول التي كانت تساند الشعب السوري، كي تواصل مطالبها بإنهاء عصر الأسد وحزبه وعائلته، عن طريق الثورة الشعبية، وفي المقابل كانت امريكا تعطي روسيا دور الإشراف على الملف السوري، ليعبث فيه فلاديمير بوتين، لأن امريكا غير جادة في إنهاء الأزمة السورية في فترة وجيزة، وبالتالي فكان خير من يقود الملف السوري إلى الدمار من وجهة نظر امريكية هو الإشراف الروسي الهمجي، وقد وجدت امريكا وروسيا ضالتهما بالقيادة الإيرانية الأكثر همجية وإجراماً وقتلاً للشعب السوري وتشريده وتخريب بلاده وتدميرها، أكثر مما كان يتوقع الأمريكان والروس والعالم أجمع، ولذلك لم تكن مسألة اللاجئين السوريين من القضايا التي تهم امريكا أو روسيا أو إيران وهي المتسببة بها أصلاً، وتركت تركيا والأردن ولبنان تواجه تحديات اللجوء، واستقبال المساعدت من منظمات إنسانية لا تتناسب مع حجم المأساة والجرائم التي ارتكبها بشار الأسد والحرس الثوري الإيراني والمليشيات الطائفية من حزب الله اللبناني والعراقي وغيرهم. عند ذلك ادركت الحكومة التركية أن مأساة اللاجئين تتفاقم في معاناتها الإنسانية اولاً، وفي كلفتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تركيا ثانياً، وان المجتمع الدولي لا يقوم بمسؤولياته الإنسانية ثالثا، ولا بواجباته القانونية في حماية شعب يقتل بشكل مباشر رابعاً، وهو ما دفع القيادة التركية لأن تندد في الكثير من المناسبات بالمواقف الدولية التي تركت مأساة الشعب السوري إلى هذا الحد، بل وجدت تركيا أن هناك من يحمل تركيا مسؤولية اللاجئين السوريين، وكأن تركيا هي السبب وليس نظام بشار الأسد وحربه الطائفية ضد الشعب السوري، وبالأخص بعد أن وصلت أزمة اللاجئين إلى أبواب اوروبا وداخل مجتمعاتها، وبعد أن شوهد أطفال سوريا غرقى على الشواطئ الأوروبية، وفي بحارها ومياهها الإقليمية والدولية، وبدل ان يفكر العالم بحل أسباب مشكلة اللاجئين بوقف منع القمع والقتل والبراميل المتفجرة، إذا به يعطي الفرصة بعد الأخرى لبشار الأسد والحلف الروسي والإيراني لمواصلة قتل الشعب السوري، ومطالبة تركيا بمنع هجرة اللاجئين من تركيا إلى اوروبا، فكان موقف تركيا مطالبة أوروبا أن تتحمل مسؤولياتها، فقال الرئيس أردوغان قبل أيام: “إن على أوروبا مشاركتنا في تحمل أعباء اللاجئين”، وقال عن الأوروبيين: “إنهم مخطئون في اعتقادهم بأننا نفتح أبوابنا لإرسال اللاجئين إلى أوروبا”، وجدد دعوته إلى إنشاء مدينة شمال سوريا، مساحتها 4 آلاف و500 كيلو متر، لاستيعاب النازحين السوريين، على أن تكون مجهزة ببنية تحتية كاملة، كما أنه بإمكان دول أخرى مشاركتنا في بنائها”، ولكن التجاوب الأوروبي لم يكن قويا أيضاً، بسبب الضغوط الأمريكية عليها، هكذا تأكدت الرؤية التركية بأن أمريكا واوروبا غير مكترثتين بالمأساة الإنسانية للشعب السوري، وان هناك ازدواجية صارخة بالمعايير الدولية بمساعدة الشعوب، فلو كانت المأساة السورية لغير الشعب السوري العربي المسلم لكان موقف كل العالم مغايراً وأكثر عدلاً ومساعدة.
لم تساعد أمريكا الشعب السوري في استكمال انتصاره اولاً، ومنعت عنه الأسلحة ثانياً، ومنحت بشار الأسد الفرص المتوالية لقتل المزيد من الشعب السوري وتدمير دولته ثالثا، ورفضت أمريكا أن تساعد تركيا بمساعدة الشعب السوري بإقامة منطقة آمنة داخل حدود وطنه، سواء في شمال سوريا أو جنوبها أو شرقها او غربها، ونظراً لثقل المسؤولية على الحكومة التركية والمجتمع التركي فقد أصرت الحكومة على طرح فكرة المنطقة الآمنة لمساعدة الشعب السوري، حتى لا يضطر إلى التشرد خارج حدود وطنه، ولم تكن لدى الإدارة الأمريكية حجة مقنعة لرفض المنطقة الآمنة إلا ذريعة صعوبة حمايتها أمنيا وعسكريا، بينما كان يمكن بقرار من حلف الناتو أن يفرض منطقة حدودية آمنة من العمليات العسكرية من كل الأطراف، قبل التدخل الروسي وبعده، لجعلها ملاذا آمنا لكل السوريين الفارين من الحرب في الداخل، والراجعين من الخارج طالما هم لا يريدون البقاء في مخيمات اللجوء، ولكن رفض أمريكا دليل على أن أمريكا لا تريد تحجيم الصراع في سوريا وداخل الحدود السورية أولاً، وتسعى لجعله صراعاً إقليمياً ثانياً، ولهذا سمحت لإيران بارسال جيشها وحرسها الثوري وحزب الله اللبناني إلى سوريا، وتسعى لجعله صراعاً دولياً ثالثاً، ولذلك سمحت لروسيا ان ترسل جيشها وطائراتها للتدخل وقصف الشعب السوري، وهي سعيدة بالاختلاف الروسي التركي أيضاً. كل ذلك فرض على الحكومة التركية أن تكون مدركة للخطط الأمريكية التي تسعى لتوسيع دائرة الصراع في المنطقة بكل أوراقها بما فيها أزمة اللاجئين، وفرض على الحكومة التركية ان تتجنب المصائد الأمريكية التي وقعت فيها إيران والمليشيات الطائفية لحزب الله اللبناني وخسارتهم الأخلاقية والنفسية والمادية والاقتصادية في سوريا، وأن تتجنب الجنون الروسي الذي ورط نفسه بحرب بدون ضرورة، وقد بدأت تدفع ثمن خطئها، وفرض على الحكومة التركية ان تنظر لمسألة اللاجئين على انها مسألة إنسانية قدمت فيها والشعب التركي ما يستطيعون عمله، وان تضع حداً لأزمة اللاجئين داخل حدودها، طالما أن أمريكا تريدها ورقة ضغط على الحكومة التركية وأوروبا، بينما هي أي أمريكا رفضت استقبال عشرات الآلاف في الولايات المتحدة الأمريكية الخمسين وربما لضيق المساحة فيها.
إن الرؤية التركية الجديدة لأزمة اللاجئين آخذة بالتفاعل مع الاتحاد الأوروبي الذي أخذ يعاني من أزمة اللاجئين، وأخذ يضطر لسماع وجهة النظر التركية أيضاً، فطالما ان الاتحاد الأوروبي لا يستطيع مقاومة الرفض الأمريكي لإقامة منطقة آمنة وحل مشكلة اللاجئين داخل سوريا، فتركيا اكتفت بما تستطيع مساعدته ممن دخل الأراضي التركية حتى شهر نوفمبر 2015 ، ومنذ ذلك التاريخ أصبح دخول السوريين إلى تركيا بالتأشيرات فقط، وتم توقيع تفاهمات إنسانية وامنية وسياسية مع الاتحاد الأوروبي لمعالجة ازمة اللاجئين، بحيث لا يتعرضون للاستغلال ولا يتعرضون للظلم، وتنظيم حركة تنقلهم بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى تسهيل حركة المواطنين الأتراك بدون تأشيرات مع دول الاتحاد الأوروبي أيضاً، وهذا الاتفاق الذي سعت له الحكومة التركية لا يعني تخلي الأتراك عن حل المنطقة الامنة أو المدينة السكانية في شمال سوريا، وإنما تنظيم حركة اللاجئين من تركيا إلى أوروبا أو العكس، ضمن ضوابط تساعد اللاجئين بتأمين مكان آمن داخل تركيا أو أوروبا أو المنطقة الآمنة داخل الأراضي السورية قريباً، وما يدور بحثه الآن هو إعادة قبول المهاجرين غير القانونيين، ومتابعة تخصيص 3 مليارات يورو للاجئين السوريين في تركيا، وفق مبدأ “تقاسم الأعباء”، وعضوية أنقرة في الاتحاد الأوروبي، وإلغاء تأشيرة دخول المواطنين الأتراك إلى دول الاتحاد.
القدس العربي