ليس لفوز إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية أن يحجب أزمة عميقة في الديمقراطية الليبرالية التي بدت خلال جيل كامل أفق الطوبى العالمية الوحيدة، حتى أن فرانسيس فوكوياما أنهى التاريخ عندها. وليس فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية قبل شهور قليلة، هو الشاهد الوحيد أو حتى الأبرز على أزمة الديمقراطية الليبرالية. من المؤشرات الأهم توقف التحولات الديمقراطية عالمياً، وصمود التسلطية في الصين وروسيا وإيران، وصعودها في تركيا، وتحجر النظم السياسية في أوروبا الشرقية من وراء لبرلة فوقية، وتجدد الطغيان والتعفن في العالم العربي، فضلاً عن صعود حركات اليمين الشعبوي في الغرب. المشترك بين هذه الحالات وغيرها هو الضعف السياسي المتفاقم للجمهور العام، وتنامي قوة نخب السلطة والثروة في كل مكان.
العالم اليوم يبدو خالياً من أي طاقة ديمقراطية كامنة، أو مركز ديناميكي عالمي دافع نحو التغير. والغرب الذي كان مركز العالم طوال قرنين ونصف لا يزال الأقوى والأغنى بما لا يقاس، لكنه يبدو متخبطاً سياسياً وفكرياً، فلا يتحكم بنفسه ولا يقدم نموذجاً لغيره. لا يقتصر الأمر على أنه لم يعد قوة تغيير على المستوى العالمي، يبدو بالأحرى قوة محافظة وانكفاء في نطاقه الخاص.
لم ينجح اليمين العنصري في فرنسا، لكن معركة الديمقراطية فيها وفي غيرها تبدو معركة تراجعية دفاعية. كسب هذه المعركة لا يزال مهماً، إلا أنه لا يبدو أن هناك ما يمكن بناؤه على هذا الكسب على مدى أطول. قبل فرنسا، تحقق فوز مشابه في هولندا، لكن هزيمة اليمين القومي العنصري في الحالين ليس انتصاراً نهائياً للديمقراطية، ولا حتى في البلدين ذاتيهما. «الشعب» ضعيف سياسياً في البلدين وفي غيرهما، والديمقراطية تكاد ترتد إلى التمثيل (وهو سابق للديمقراطية ولا يقتضيها) وإلى انتخابات دورية تضمن تداولاً سلمياً للسلطة محصوراً في دوائر ضيقة. وليس هناك أي ضمانات في أن من خسروا الجولة اليوم لن يكسبوها غداً. ليس هناك مراجعة لأي أساسيات في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولا يبدو أن هناك تطلعا لتغير في النظام الدولي على نحو يوفر عدالة أكبر للأكثر حرماناً، ويدرجهم في عالم يدافعون عنه. باختصار، يفتقر النظام إلى أي كوامن ثورية. يُحاول أن يكون مسلياً بدل ذلك، لكنه يثير مللاً متزايداً أيضاً. يتكلم كولن كراوتش عن «ما بعد الديمقراطية»، وعن أوضاع سياسية لا تأتي قوى التجدد فيه من التعبئة السياسية لكتل سكانية أكبر وللصراع السياسي، ويلعب الخبراء ونخب ميسورة الدور الحاسم فيها.
هذا ما يبقى الباب مفتوحا أمام صعود اليمين العنصري مستفيداً من مشكلات اقتصادية وأمنية، ومن فتور عام وضياع للوجهة. ما كان جعل النموذج جاذباً حتى نحو عقد واحد من اليوم هو ما بدا من قدرته على تجاوز نفسه، على توسيع قاعدة المستفيدين منه واستيعاب طاقات جديدة. اليوم يبدو أنه يضيق بأهله، وليس بالوافدين الجدد وحدهم. كان يمكن لـ»أزمة اللاجئين» أن تكون حدثاً عارضاً، لا يلبث النظام أن يتجاوزه وربما يجدد به نفسه، لكن الاستجابة تبدو دفاعية أكثر: من جهة يصعد اليمين القومي العنصري (في مواجهة لوبان الأب فاز شيراك الفاسد بـ82٪ من أصوات الفرنسيين قبل عقد ونصف، وفي مواجهة ابنته فاز ماكرون غير الفاسد بأقل من ثلثي الأصوات)، ومن جهة أخرى تبدو أوروبا المتأثرة بأزمة اللاجئين مستسلمة لواقعة أنها لا تستطيع ممارسة دور مستقل في معالجة الجذور السياسية للأزمة.
في الوقت نفسه يبدو أن البنيان الدولي القائم اليوم يحول دون بروز إمكانية لتجديد شباب الديمقراطية من خارج الغرب. ليس أن هذه الإمكانية جاهزة، لكن ميل القوى الدولية النافذة، الولايات المتحدة بخاصة، إلى السيطرة على عمليات التغيير في مجالنا من العالم تحول دون تولد قوى اجتماعية أصيلة وحية. في سوريا أجهضت عملية التغيير بقيادة أمريكية «من الخلف»، بذريعة فقدان البديل مرة، والخشية من سيطرة الإسلاميين مرة، وهو ما يضمر إرادة تحكم بالعملية ومخرجاتها، وحرمان السوريين عملياً من سياسة أنفسهم وتدبُّر أمر تاريخهم. هذه عملية قلقة لا ضمانات فيها، مثلها في ذلك مثل تاريخ أمريكا ذاتها وتاريخ فرنسا وغيرهما. وفي إرادة السيطرة على التغيير في مجالنا ما يدل على خوف من التغيير، وتفضيل للاستقرار أو للشيطان المعروف على شياطين مجهولين. وراء هذا التعبير الشائع إلى حد الابتذال، هناك خوف مميز للقوى المحافظة من مخاطر التغيير وعواقبه غير المأمونة.
والقضية السورية تؤشر في تصوري على نهج أعم: محاولة التحكم بالتغيير في العالم من قبل قوى لا تتغير هي ذاتها، وتنزع إلى افتراض الكمال في نفسها. العالم في أزمة لهذا السبب بالذات: القوى المسيطرة عالميا تغلق منافذ يمكن أن يأتي منها جديد مختلف، وهي تخوض حرباً من أجل ذلك. إن كان ما يجري في سوريا هو حرب أهلية، فهي ليست بالقطع حرباً أهلية سورية (ما دامت أمريكا وروسيا وإسرائيل وإيران وتركيا والجهادية الشيعية والجهادية السنية عندنا)، بل هي حرب أهلية عالمية. وهي حرب رجعية جوهرياً، ومعادية للتغيير. ليس أن التغيير السوري كان مضموناً أن يؤدي إلى أوضاع طيبة أو ديمقراطية. لكن طي صفحة إجرامية لا يحتاج من أي عادلين إلى إعداد البديل سلفاً. طي الصفحة هو الشرط الضروري لولادة البديل. أما حماية القديم السوري، أو هندسة الخراب العام إلى حين يتحكم النافذون تماماً بتغيرنا، فهو الضمانة القطعية في أن لا يولد جديد حي.
سوريا قد لا تكون مهمة جداً بذاتها، لكنها مثال على مقاومة التغيير برعاية إقليمية وعالمية، هذا بينما من شأن التغيير وحده واتساع نطاقات التغيير عالمياً أن ينقذ الديمقراطية. التغيير عملية عسيرة ومأساوية، لكن ليس غيرها يمكن أن يجدد شباب العالم.
ومطلب التغيير في سوريا وغيرها مرتبط أصلاً بمتخيل العالم الواحد الذي حفّز سوريين إلى الثورة من أجل التغيير والديمقراطية مثلما في بلدان كثيرة من هذا العالم الواحد، وهو ما دفع كثيرين منهم إلى أوروبا تفضيلياً مع تحطم العملية التغييرية في سوريا. المثال السوري يظهر أن البنى السياسية الدولية تحبط التحول السياسي الذي يحفزه الشرط العالمي المتداخل بالذات. لكن هذا يعود منذ الآن على هذه البنى بمزيد من اللافعالية والنفول، وعلى القوى القائدة فيها بتراجع الديمقراطية فيها ذاتها.
في عالم واحد، يتمثل التحدي اليوم في تعميم الديمقراطية عالمياُ، وإلا فتراجع الديمقراطية في مراكزها الأقدم، والاستسلام التدريجي أمام السياسات القومية واليمينية والدولانية.
والأرجح أنه يمتنع تولد طاقة تحررية كامنة على الأرضية الديمقراطية الليبرالية التي تطورت خلال العقود الثلاثة الماضية باتجاه حكم (قراطية) أكثر وشعب (ديموس) أقل (الشرط ما بعد الديمقراطي). الطاقة تأتي من انخراط أوسع للبشر في تحديد مصائرهم ومصائر الكوكب. هذا ما كان حفز فكرة الديمقراطية أصلاً، وما حفز نقدها الاشتراكي أيضاً. وهو ما يقتضي دخول من لا يزالون في الخارج مثلنا. لسنا تهديداً للعالم، بل لعله لا يتجدد من دوننا.
لا نستطيع في سوريا أن نبقى خارج التفكير في هذه الشؤون. ليس فقط لأن الثورة في بلدنا كانت بصورة ما ضحية أزمة الديمقراطية الليبرالية عالمياً، وإنما كذلك لأن هذه الأزمة توافقت مع تحطيم بلدنا، وكانت أقرب إلى تعهد هذا التحطيم دون أصوات احتجاج فكرية وسياسية مسموعة في الغرب. ثم إن التحطم الواسع والمتنوع الأشكال للـ»ديموس» السوري يجعل من المثابرة على التفكير الديمقراطي الليبرالي التقليدي أن يكون ضرباً من الكسل الفكري، يعتم على مشكلات السياسة والمجتمع والتنظيم السياسي والدولة اليوم، أكثر مما يضيئها. لعل هذا أحد منابع انعدام وزن المعارضة التقليدية العلمانية: ليست لديها أفكار مميزة حول سوريا ما بعد أسدية تتجاوز ما كان قيل في أواخر سبعينات القرن العشرين واستعيد أيام «ربيع دمشق»: تعددية سياسية وسيادة القانون والمواطنة، ما يبقي القضايا الإثنية والدينية خارج النقاش عملياً، وكذلك القضية النسوية، ومشكلات التنظيم الإداري السياسي في اتجاه غير مركزي، كما يُغفل بقدر واسع أيضاً «المسألة الاجتماعية».
يستحسن في تصوري بناء تفكيرنا على أن فرصة تغيير ديمقراطي في سوريا قد ضاعت «إلى الأبد»، وأن تجددنا صار يندرج في تغيير عالمي يرجح له أن يقتضي مراجعة الأسس الفكرية والقيمية الموروثة للديمقراطية الليبرالية. ليست المسألة أن نتخلى عن أهدافنا أو نبدِّلها بغيرها، بل أن نغير مناهج تفكيرنا وأدوات عملنا بالضبط من أجل أن لا نتخلى عن أهدافنا في المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والحلم بعالم واحد يُدافع عنه.
وتتجسم الأزمة فيما يخصنا في حقيقة أن تياراً واسعاً من اليسار العالمي يبدو شريكاً للفاشيين الغربيين في مساندة الدولة الأسدية، وهو على كل حال في بلدان الغرب ذاتها يعرض عجزاً متفاقما عن اقتراح آفاق تحررية مغايرة ويبدو جزءا من الماضي الغابر، لا من مستقبل واعد.
الأزمة عامة، والمخارج لا بد أن تكون عامة. وبينما لا نستطيع التنبؤ بالمستقبل، فإننا نعلم يقيناً أن الحاضر سيء.