من فتحة صغيرة في جدار على الخط الأمامي في الموصل راح جنود عراقيون يرتدون زياً أسود يتطلعون لإلقاء نظرة على آخر مساحة من الأرض يسيطر عليها «الدولة الإسلامية» في قلب المدينة التاريخي.
وعلى بعد خطوات فقط تنتصب في أرض تفصل بين المتحاربين، قاعدة المئذنة الحدباء التي ظلت تطل على المدينة على مدار 850 عاماً حتى قام عناصر التنظيم بتلغيمها ونسفها في الأسبوع الماضي.
ويقتضي الوصول إلى هذا العمق في الموصل القديمة أن ينزل جنود جهاز «مكافحة الإرهاب» من عربات «الهمفي» المدرعة والسير عشر دقائق في متاهة من الأزقة الضيقة التي لا تتسع في بعض المناطق سوى لمرور رجل واحد.
ويعبر الجنود من خلال فتحات في الجدران ويدخلون بيوتا وأفنية مهجورة ينتشر فيها الركام.
والمباني في هذه المنطقة شديدة الكثافة لدرجة أن السيارات لا يمكنها المرور فيها، كما أن الضربات الجوية ستتسبب على الأرجح في أضرار وخسائر بشرية واسعة غير مقصودة.
وأصبحت معركة استعادة العاصمة الفعلية لتنظيم «الدولة» في العراق تقتصر على مجموعة من الجنود العراقيين مسلحين ببنادق هجومية يناورون سيرا على الأقدام عبر قلب المدينة بأزقته الترابية.
وتسببت الاشتباكات العنيفة والقتال المتلاحم بين القوات الخاصة ومقاتلي التنظيم الذين اكتسبوا خبرة قتالية كبيرة في إلحاق أضرار شديدة بالمدينة القديمة حتى أصبح من الصعب التمييز بين البيوت وأفنيتها.
ومنذ تسعة أيام اقتحمت القوات العراقية المدينة القديمة التي تمثل الهدف الأخير لحملة عسكرية بدأت قبل ثمانية أشهر لاسترداد الموصل. ويوم الاثنين سيطرت القوات على حي الفاروق المواجه للمئذنة الحدباء وجامع النوري ويوم الثلاثاء قال الجيش إنه استعاد حي المشاهدة.
ومثل الأحياء التاريخية في العواصم العربية الكبرى كالقاهرة ودمشق توجد في مدينة الموصل القديمة سوق شعبية وبضعة مساجد وكنائس وتنتشر البيوت الصغيرة التي أعيد بناء بعضها فوق بعض على مر العصور.
وترجع أغلب الأبنية الحجرية إلى فترة العصور الوسطى غير أن بعضها أقدم من ذلك. وقد تسببت مبادرات التطوير والإهمال الطويل في إحداث أضرار جسيمة قبل أن يسيطر التنظيم على المدينة غير أن المئذنة الحدباء، التي كانت ترتفع 45 مترا في سماء الموصل، ظلت قائمة كرمز خاص بالمدينة خلال تلك التحولات.
وقد قال رئيس الوزراء العراقي، حدير العبادي، إن تدمير المئذنة يرقى إلى مستوى الاعتراف بالهزيمة من جانب الدولة الإسلامية.
فعلى منبر هذا المسجد كانت المرة الوحيدة التي ظهر فيها أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، على الملأ قبل ثلاثة أعوام ليعلن قيام دولة الخلافة التي تتهاوى أركانها الآن.
وقالت مصادر عسكرية أمريكية وعراقية إن البغدادي ترك القتال في الموصل لقادة محليين ومن المعتقد أنه يختبئ في المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا.
ويقدر الجيش العراقي أن ما يصل إلى 350 من عناصر التنظيم مازالوا محاصرين في المناطق الباقية من المدينة القديمة متحصنين بين المدنيين في بيوت متداعية ويستخدمون الشراك الخداعية والتفجيرات الانتحارية ونيران القناصة على نطاق واسع لإبطاء تقدم القوات الزاحفة من الغرب والشمال والجنوب.
ويقول من تمكنوا من الهرب، إن أكثر من 50 ألف مدني محاصرون خلف خطوط «الدولة الإسلامية» ولديهم كميات لا تذكر من الغذاء والماء والدواء. ولم يظهر أثر لأي منهم يوم الثلاثاء في المناطق التي تخضع لسيطرة القوات الحكومية في المدينة القديمة.
ولاتزال بضعة أحياء خارج سيطرة القوات العراقية. ورغم أن السلطات تتوقع أن ينتهي الهجوم في الأيام القادمة فما زال تقدم القوات عملية مضنية.
وفي باحة بيت متهدم يطلق جندي طائرة صغيرة دون طيار. وبينما كانت ترتفع بأزيزها في السماء تجمع الضباط على أريكة لتفقد الدفاعات المعادية من خلال بث الفيديو الذي يستقبلونه من الطائرة.
وقال جنود ممن ينطلقون عبر أزقة تسدها حجارة وقطع أثاث، إن القناصة والمفجرين الانتحاريين مازالوا مصدر المقاومة الرئيسي من جانب «الدولة الإسلامية». ويتداول الجنود فيما بينهم سبل التكيف مع القتال خارج عرباتهم الهمفي.
وقال جندي إن المواجهة ليست مباشرة. مضيفا «أحيانا يخرجون فجأة من ناصية».