سامر أبو أمل (1)
ربما هي حكايات بسيطة/يسيرة في نظر البعض، لكن من الجيد عرض شهادات قديمة/حاضرة، فحضور أحداثها القديمة يطغى أحياناً على حاضري، هي ذكريات حول أفراد عائلة حاكمة يظنون أنفسهم بأنهم أسياد، وبقية الشعب السوري تعيش ضمن طبقة أدنى/محتقرة. تؤلمني هذه الذكريات، وألمها المعنوي كبير، لكنها ستنضم إلى الكثير من الحكايات التي عانى منها الكثير من الشعب السوري، والتي تدلّ على فساد مقولة : « كنّا عايشين ».
في نهاية التسعينات، سافرت إلى دمشق لكي أدرس في جامعتها دبلوم دراسات عليا والتحضير لمرحلة الدكتوراه في اختصاص له علاقة بالعلوم الإنسانية. وكوني من عائلة فقيرة الحال، كنت أعمل، بجانب دراستي، خلال فترات الصيف والعطلات والأعياد في مطعم في مدينة اللاذقية. وهكذا في ذلك العام، وقبل العيد بأيام تركت دمشق وعدت إلى مدينتي لكي أرى عائلتي، وأعمل بعض الأيام لأكسب مالاً يسند طموحي الدراسي.
خلال هذا العيد، وداخل المطعم فيه الكثير من الزبائن الجالسين والواقفين/المنتظرين شغور طاولة، أتى فواز الأسد لوحده، دَخَلَ الصالة ولم يجد طاولة شاغرة (كان هو يفترض أن هناك طاولة محجوزة له، فخارج فترة العيد، كان يُلزم إدارة المطعم بحجز طاولة له، كلّ يوم، كلّ يوم، سواءً أتى أو لم يأتِ، يجب أن تكون الطاولة محجوزة له. لكن في فترة العيد، ظنت الإدارة أنه لن يأتي، فما حجزت طاولة). عندما لم يرَ الطاولة محجوزة، خرج من الصالة غاضباً وكنت بالصدفة ماراً في ساحة المطعم، فصرخ في وجهي قائلاً: « ولا، ابعتلي صاحب المطعم بسرعة لشوف». ولعلمي أن صاحب المطعم لا يريد أن يكون في هكذا مواقف، فسألت هذا الـ فواز: « أستاذ، بتريد صاحب المطعم أو المدير؟ ». فما كان منه إلا أن صفعني كفاً قوياً وصرخ كثور هائج: « قلتلك صاحب المطعم ولا ».
صراحة، ما عدت أتذكر ما عشته من أفكار ومشاعر عندما صفعني، إذ يغيب، في هكذا مواقف، معظم ما اكتسبه المرء من معارف وأفكار، ويسيطر عليه خوف تجرعه على مدار سنوات، خوف يقول لصاحبه: « أمام هذا الكائن أنت معدوم الحقوق، أنت تحت سيطرة مزاجه وما يريده ». هو خوف يضيف ربما: « لحسن حظّك أن هذا الكائن جاء، اليوم، لوحده، من دون ضباعه المسلحين، فتخيل لو كانوا معه، لمزقوا جسدك وروحك لإنك تجرأت ورددت أمره بـ سؤال ».
هكذا يستحضر المرء حظّه مهما كان وضعه سيئ الشكل والمضمون، هكذا يجد نفسه محظوظاً في ظلّ غياب عدالة وطن ظنّه وطنه.
لم تنتهِ الحكاية بعد، فقد ركضت، بعد الصفعة، أبحث عن المدير أو صاحب المطعم، بحثت عنهما في العديد من الصالات ولم أجدهما (كان زملائي يلاحظون ركضي ويحاولون تجنّب الكلام معي نتيجة عجز كان يحيط بنا جميعاً، فلقد وقعت فريسة شخص من عائلة الأسد). يئست، فأردت العودة والبحث عنهما في المطبخ، وللذهاب إليه ينبغي عبور الساحة، وفي الساحة كان ينتظرني كائن، هو كائن كان يظن نفسه “إنسان”. وهكذا عدت وقابلت فواز الأسد، الذي وجد بأنني تجاهلت أمره، فأمسكني، وأخذ يضربني ويلكمني ويشتمني، سقطت أرضاً من شدّة الضرب، ثمّ، أخذ يركلني على بطني وظهري وكأني في جلسة تحقيق داخل أحد فروع الأمن السوري، كان يضرب ويصرخ : « قلتلك بدي صاحب المطعم يا ابن … وينو هالأخو ….. ».
اكتشفت أنني لا أقاومه، فمن خلال خبرتي في التعامل مع هكذا أشخاص ومع الشبيحة، قد تقود المقاومة إلى حتفي، إذ كان بيني وبين موتي رصاصة، والرصاص موجود دائماً في أسلحة يحملونها، أسلحة كانت تهدّد مدنيي سورية، وما بعمرها هددت عدونا إسرائيل.
في الساحة، كان منتظرو طاولة شاغرة، يشاهدون ما يحدث بصمت ومن دون ردة فعل، وزملائي في العمل يراقبون ما يحدث من خلال زجاج الصالات، وأنا وكل شهاداتي وطموحي في الدكتوراه، لأحدث تغيير ممكن في المجتمع!!، كانوا بين أيدي هذا الغول.
تركني، وعاد وصرخ بأنه يريد صاحب المطعم، فقمت وركضت باتجاه المطبخ، وفي هذه الأثناء جاء أحد الزملاء/المخلص، يقول، بخوفٍ، لفواز: « أستاذ أتفضل، صار في طاولة فاضية ». (كان قد استطاع هذا المخلص أن يطلب من زبون/صديق التنازل عن طاولته من أجل فواز).
بعد ذلك، طُلِبَ مني مغادرة المطعم، خوفاً من قدوم شبيحة فواز ومحاسبتي شر حساب، وكان يقال لي: « عندك حظّ، كان لوحده ». هكذا هو الحال في سورية الأسد، يفرح المرء على الرغم من خسارة عملت على إذلاله، يفرح عندما يتخيل ويقارن الحالة التي مرّ بها…. بالأسوأ.
نقلاً عن صفحة أكاد الجبل.