شهدت العاصمة الهولندية أمستردام بداية الأسبوع الجاري فعاليات مختلفة بمناسبة “يوم التوليب الوطني”، الذي تحتفل به البلاد في يناير/كانون الثاني من كل عام.
وتوافد الآلاف على ميدان “دام” في المدينة للحصول على زهرة التوليب بمختلف ألوانها، إذ جرى توزيع نحو مئتي ألف منها بهذه المناسبة، واستمتعوا بالتقاط الصور التذكارية في المكان.
لكن الشغف بالزهرة الجميلة لا يتعلق فقط بشكلها المميز وألوانها الزاهية فحسب، ولكن باعتبارها مصدرا للثروة ضمن شبكات تجارية واسعة منذ قرون، وكان يُنظر إليها على أنها جميلة وتعبر عن الذوق والثقافة الرفيعة والثراء الواسع أيضا.
ومثل اللوحات النادرة والتحف الثمينة، حرص الأغنياء على اقتناء الزهور التي ارتفعت أسعارها كثيرا بحسب الرواية السائدة.
جنون التوليب
عرفت هولندا -في عصرها الذهبي بالقرن 17- فترة من الجنون عرفت بـ”هوس التوليب”، حيث ارتفعت أسعار بصيلات الزهرة الجميلة لتقترب من سعر منزل كامل، قبل أن تنهار بشكل كبير في فبراير/شباط 1637، بحسب الروايات التاريخية الشائعة.
وارتبطت الظاهرة بعوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية مختلفة، وتدخلت الحكومة في النهاية وأوقفت الاتجار بها، ولكن ليس قبل خسارة كثيرين ثرواتهم.
وطوال قرون ظل “هوس التوليب” عبرة يُستشهَد بها في سياق التحذير من المضاربات المالية والفقاعات الاقتصادية مثل ما جرى مؤخرا من تشبيه العملة الرقمية “بتكوين” بها، ومع ذلك لم يكن الأمر هكذا بحسب كتاب الأكاديمية المؤلفة آن غولدغار التي بحثت في الأرشيف الهولندي لتكشف أن الأمر كان “أقل دراماتيكية” مما يتم تصويره.
تزهر “بصلات التوليب” في الربيع لتكون ورودا تتميز بالأناقة والجمال وترمز للحب، وانتقلت هذه الأزهار من أراضي الدولة العثمانية منذ أربعة قرون لتلقى حفاوة واهتماما بالغا بزراعتها في هولندا التي سرعان ما تبنتها.
وارتفعت الأسعار بالفعل في هولندا، لأنه كان من الصعب زراعتها، وكانت لا تزال جديدة ونادرة. وفي الواقع كان التداول هادئا نسبيا في هولندا في معظم الأحيان، وتم تأسيس شركات في مدن مختلفة لرعاية البصلات وإنبات الزهور وشرائها وبيعها، وظهرت لجان من الخبراء للإشراف عليها، لكن المبالغة في تصوير ما جرى طغت على حقيقة ما حدث، بحسب كتاب آن غولدغار “هوس التوليب: المال والشرف والمعرفة في العصر الذهبي الهولندي” (2008).
مبالغة
ترى المؤلفة أن ظاهرة “هوس التوليب” بالطريقة التي نعرفها حاليا لم تحدث أبدا، وكانت التجارة محصورة في مجتمع صغير إلى حد ما من التجار، خاصة داخل طائفة دينية بعينها، وتشير السجلات إلى عدد قليل من حالات الإفلاس الناتجة عن انهيار الأسعار.
وضرب وباء الطاعون هولندا عام 1636، أي قبل زيادة أسعار التوليب وانهيارها في بداية العام المقبل بحسب الرواية المفترضة، وعندما بدأ خطر الطاعون (وهو مرض صيفي في الأساس) بالتلاشي لم يكن التجار والأثرياء -الذين يفترض أن يكونوا ساهموا في المضاربات بحسب الرواية الشائعة- يمتلكون الكثير من الأموال لإنفاقها على بصيلات التوليب الغالية.
وربما كان السعر مرتفعا، لكنه في الغالب لم يكن مبالغا فيه، ومع أن بعض زهور التوليب كانت غالية فإن العديد من الزهرات العادية كانت أرخص بكثير مما تصوره الفرضية السائدة التي لا تراها المؤلفة صحيحة.
ولم يحصل الانهيار بسبب دخول أشخاص سذج دون خبرة كافية إلى السوق كما يشاع، ولكن ربما بسبب مخاوف من زيادة العرض وعدم القدرة على تحمل الارتفاع الكبير في الأسعار في الأسابيع الخمسة الأولى من عام 1637، بحسب دراسة آن غولدغار أستاذة التاريخ الحديث بكلية كينغ في لندن.
وفي هذه الفترة من بداية العام، لم تكن بصيلات التوليب قد أزهرت بالفعل في الشتاء، بل كانت جميعها لا تزال في الأرض بانتظار فترة الإزهار الربيعية. وتفترض الباحثة أن تبادل الأموال لم يكن يتم قبل تسليم الزهور في مايو/أيار أو يونيو/حزيران من كل عام أي بنهاية الربيع، وتفترض كذلك أن المضاربين كانوا قادرين على تحمل الخسارة.
وتضيف المؤلفة أنها لم تلاحظ خلال دراستها للأرشيف الهولندي الذي يتناول هذه الفترة حالات إفلاس وخسارة فادحة، ولم يؤد هوس التوليب لـ”ضربات مالية قاتلة” بحسب تعبيرها، ومع ذلك بقي الاقتصاد الهولندي قابلا للتعافي من دون صعوبات كبيرة.
تحولات
وتقول المؤلفة إن هذه “الخرافات” حول هوس التوليب استمرت بسبب مؤلفي الكتب الأكثر مبيعا الذين تحمّلهم مسؤولية المبالغة الشديدة في تصوير ما جرى.
وتقول المؤلفة إن ما يشاع على نطاق واسع حول “هوس التوليب” استند إلى عدد صغير من الترجمات لكتابات ساخرة ودعائية شوهت أحداث هذه الفترة وشخصياتها، وتذكّر القصة بخطورة التبسيط الزائد للأحداث وعدم الوقوف على حقائقها الأكثر تعقيدا.
وتبدو الكتابات التاريخية عن هوس التوليب وكأنها كتبت بقصد تربوي أو أخلاقي بدلا من التأريخ الفعلي للحقائق، ولكن التغيرات الاجتماعية والثقافية الناجمة عن تحولات توزيع الثروة كانت حقيقية، وكانت المخاوف آنذاك تشبه المخاوف الحديثة.
ومع ذلك يتم استدعاء أحداث “هوس التوليب” مرارا وتكرارا كتحذير للمستثمرين بالابتعاد عن المضاربات الجديدة، لكن “هوس التوليب” كان حدثا تاريخيا في سياق تاريخي معين، ومهما كان -بحسب المؤلفة- فإن عملة البتكوين ليست “هوس توليب” جديدا.
المصدر : الجزيرة