يتردّد اسم محمد بن زايد، الذي يشغل رسميًّا منصبي وليّ عهد أبوظبي، ونائب القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، كثيرًا بين مئات آلاف الوثائق السرّية المنشورة في موقع التسريبات “ويكيليكس”، وفي فترات متباعدة.
ويمكن أن نستدلّ من أحاديث الغرف المغلقة تلك أن سياسة التحريض التي حرّكت الثورات المضادّة في الأقطار العربيّة المنتفضة، وأفضت أخيرًا إلى مقاطعة قطر وفرض الحصار عليها، هي راسخة الجذور لدى بن زايد، كما أن عداءه للديمقراطيّة، ولحركات المقاومة الفلسطينيّة، وقابليّته للتطبيع مع إسرائيل، هي قناعات قديمة متأصلة لديه منذ السنوات الأولى للألفيّة الجديدة، حينما بدأ أبناء الأب المؤسس، زايد بن سلطان آل نهيان، يمسكون بزمام السلطة في البلاد. غير أن اللافت هو خصومته الكامنة مع حليفه الرئيسي في محور المقاطعة اليوم؛ المملكة العربية السعودية.
حتى فترة ليست بالبعيدة، كانت الوثائق تصف العلاقات بين قطر والسعوديّة بأنها أقل تعقيدًا من تلك التي بين قطر والإمارات، وهذا بالفعل ما ينمّ عنه أحيانًا حديث محمد بن زايد المباشر عن السعودية، حينما يفترض مثلًا، خلال حواره مع الدبلوماسي الأميركي ريتشارد هآس، أن “السعوديين والقطريين يتشاركون الجذور الوهابية، وفي المقابل، ظلّت العلاقات السعودية الإماراتية أكثر تعقيدًا”.
وفي المحضر ذاته، المدوّن بتاريخ 15 يناير/كانون الثاني 2003، والمصنّف تحت بند السرية، يواصل بن زايد حديثه مشجّعًا الإدارة الأميركية، رغم ذلك، على الاستمرار في شراكتها مع آل سعود، مؤكّدًا أن الحملة السلبية في الإعلام الأميركي تعقّد قدرة الملك عبدالله بن عبد العزيز على سنّ الإصلاحات.
لكن في مقابل ذلك، ينظر بن زايد “نظرة قاتمة”، بحسب تعبير هآس، لبعض الشخصيات المعتبرة في العائلة السعودية الحاكمة، ويصف ضمنيًّا وزير الداخلية السعودي الأسبق، نايف بن عبد العزيز، بأنه “قرد”، حينما يتهكّم على تلعثمه أثناء الحديث، قائلًا إن ذلك الأمر يثبت أن “داروين كان على حق”. ولعلّ في الأمر ما يفسّر الخلاف بينه وبين وليّ العهد المعزول مؤخّرًا، محمد بن نايف، في وقتٍ تتحدّث فيه تقارير عن علاقة وثيقة تجمعه بولي العهد الجديد، محمد بن سلمان.
وفي رسالة مؤرخة بتاريخ 24 أكتوبر/تشرين الأول 2004، ومرسلة من قبل الممثل التجاري للولايات المتّحدة، روبرت زويليك، يقول بن زايد إن “الإمارات وقطر كانت لديهما صراعات مع السعوديين”، مشيرًا إلى أن الإمارات والسعودية تحديدًا خاضتا 57 معركة على مدار الـ250 سنة الماضية، ردًّا على المحاولات السعودية لاحتلال الإمارات. ويلخّص بن زايد حديثه قائلًا: “السعوديون ليسوا أصدقائي الأعزاء، لكننا بحاجة إلى التعايش”.
جيل أبوظبي الجديد والخصومة مع “عجائز المملكة”
وفي الرسالة المذكورة آنفًا، يسخر بن زايد من أن نشاطات “القاعدة” تبدو أحيانًا “أكثر فعالية وتنسيقًا من بعض نشاطات الحكومات التي تحاول مواجهة التنظيم”، وعلى هامش ذلك، يدوّن زويليك ملاحظة يقول فيها: “يظهر أن بن زايد كان يفكّر في السعودية”.
ويصف بن زايد المملكة بأنها “غير مستقرة”، قائلًا إن هذا الأمر “يجب أن يكون مصدر قلق بالنسبة للمنطقة والعالم”، ويشير في هذا السياق إلى أن “عددًا قليلًا من المراقبين أحب الطريقة التي كان يدير السعوديون بها بلادهم”، غير أنّه عاد ليصف القيادة الحاليّة بأنها “أفضل ما نملك”.
وفي رسالة سرية أخرى، مؤرّخة بتاريخ 25 سبتمبر/أيلول 2005، تقول السفيرة الأميركية السابقة في الإمارات، ميشيل سيسون، على لسان بن زايد، إن الأخير “وجّه لطمة” للقيادة السعودية الشائخة، قائلًا إن المملكة بحاجة إلى “نظام تقاعد”، وأن الأمير بندر بن سلطان هو “المحاوِر السعودي الوحيد”.
ويشرح بن زايد أن النظام التعليمي في السعودية كان مدارًا بـ”أفكار وهابية”، مشيرًا إلى أن النظام التعليمي في الإمارات كتبه مصريّون، معظمهم تأثروا بـ”الإخوان المسلمين”، وأن الإمارات العربيّة تخوض الآن عمليّة إصلاحه.
وفي وثيقة مرسلة من السفارة الأميركية في الإمارات بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2009، ومدوّنة تحت بند السريّة وعدم الصلاحية بالنشر، يتحدّث المرسل (غير معروف على وجه الدقّة) عن أنّ الخلفاء الإماراتيين الأصغر سنًا يجدون أنفسهم على خلاف متزايد مع ما يعتبرونه “القيادة السعودية العجوز”، وهم يحاولون الخروج عن سطوة جارهم العملاق، وبناء هوية إماراتية فريدة، والسعي إلى إيجاد فرص قيادية أكبر، سواء في المنطقة أو في المجتمع الدولي.
ويضيف أن القيادة في أبوظبي لا تفوّت فرصة لإخبار كبار المسؤولين الأميركيين الزائرين أنهم يعتبرون المملكة محكومة من قبل عجائز مشاكسين، يحيط بهم مستشارون يؤمنون أن الأرض مسطحة.
السعودية ثاني أكبر تهديد أمني
في الوثيقة التي أشرنا إليها في الأسطر السابقة، والمدوّنة تحت بند السريّة وعدم الصلاحية بالنشر، يشرح المرسل طبيعة العلاقة المرتبكة التي تجمع بين السعودية والإمارات، قائلًا إنه “بينما تعتبر دولة الإمارات المملكة السعودية حصنًا ضد مقاربة قطر وعمان الاستيعابية تجاه إيران، ونهج الكويت المتردّد بين هذا وذاك؛ يبقى النزاع الحدودي الأساسي بين الإمارات والمملكة حقيقيًا، ومن غير المحتمل أن يتحسن على مر الزمن”.
ويضيف المرسل أنه في حين تعبّر أبوظبي علنًا عن علاقاتها الوثيقة مع الرياض، فإنها في السر تعتبرها أكبر تهديد أمني لها بعد إيران، ويضع على هامش ذلك ملاحظته بأن إسرائيل غير مدرجة في قائمة الأعداء. ويعزو المرسل ذلك إلى العداوة التاريخية بين القبائل الوهابية في نجد والبدو المالكيين التجار في دولة الإمارات.
حكّام أبوظبي ليسوا معنيّين بوحدة مجلس التعاون
وتكشف الوثائق أن حكّام أبوظبي ليسوا معنيّين كثيرًا بوحدة مجلس التعاون الخليجي، وبوسعنا أن نقرأ ذلك في قول السفير الأميركي السابق لدى الإمارات، ريتشارد أولسون، في رسالة مدوّنة بتاريخ 31 أغسطس/آب 2009، إنه “في حين تتشدق دولة الإمارات بالحديث عن وحدة دول مجلس التعاون الخليجي؛ فالواقع أن أبوظبي متشككة للغاية من النهج متعدد الأطراف في العلاقات التي يمكن أن تبنيها دوله، ولا سيما في الشؤون العسكرية”.
ويعقّب أولسون على ذلك قائلًا، وهو يشير في حديثه إلى بن زايد، إن “السياسة الداخلية في الإمارات تندفع بالاتجاه الآخر، فهو (بن زايد) يشعر أنه مقيد بحدود ما يمكن التعبير عنه علنًا. ولأسباب غير واضحة تمامًا، ما تزال دولة الإمارات تشعر بالحاجة للاختباء خلف جامعة الدول العربية وإجماع دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة وراء السعودية، حتى عندما تكون العلاقات متقلّبة”.
لكن الأمر لا يقتصر على ذلك، بل يتعدّاه أحيانًا إلى التحرك خارج مظلة المجلس، وهو ما يظهر في رسالة السفيرة الأميركية لدى الإمارات، المرسلة بتاريخ 29 إبريل/نيسان 2006، حين تقول متحدّثة عن احتمال التحرّك ضدّ إيران: “في الوقت نفسه، نشهد استعدادًا أكبر من جانب دولة الإمارات لدعم مبادرات الحكومة الأميركية دون موافقة كاملة من مجلس التعاون الخليجي”.
(العربي الجديد)