ليست الانتخابات التشريعية السورية التي أجريت يوم الأحد الواقع فيه 19 تموز – يوليو 2020، سوى محاولة فاشلة أخرى لنظام في بحث مستمرّ عن شرعيّة له. كان لافتا إصرار النظام على الانتخابات، التي أجلّها مرّتين، على الرغم من الانتشار السريع لوباء كورونا.
لم يأبه النظام لخطورة الوباء الذي بدأ يفتك بالسوريين الذين يتوسلون الأطباء عدم الإبلاغ عن حالهم في حال اكتشاف أنّهم مصابون بذلك الفايروس. هذا يعود بكل بساطة إلى أن لا مستشفيات لائقة في سوريا تستطيع معالجة مرضى كورونا. مصير أي مواطن سوري عادي يُكتشف أن لديه كورونا هو الرمي بالقوّة في هنغار بعيدا عن الناس وتركه لمصيره مع آخرين مثله.
تعتبر هذه التصرفات بمثابة تصرّفات عادية وطبيعية لنظام لا يعترف سوى بلغة واحدة هي إلغاء الآخر. كيف لبلد مثل سوريا فيه آلاف الأطباء من خيرة أطباء العالم ألّا يمتلك بنية تحتية طبّية مثله مثل أي بلد في المنطقة، مثل الأردن على سبيل المثال. لا يمتلك الأردن أي ثروات طبيعية تقارن بما تملكه سوريا، لكنّه استطاع، بسبب بعد نظر الملك حسين ثم بسبب الملك عبدالله الثاني، بناء نظام صحّي من بين الأفضل في المنطقة. في النهاية، كان على فاروق الشرع ووليد المعلّم المجيء إلى لبنان، إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت بالذات، عند تعرّض كلّ منهما لأزمة قلبية في مرحلة معيّنة. الأوّل في عهد حافظ الأسد والآخر في عهد بشّار الأسد…
لم يعد النظام السوري يصلح لأيّ مهمّة من أيّ نوع بعدما صار الشمال تركيا في معظمه والجولان إسرائيليا والساحل روسيا. سيشقّ ممرّ يربط دمشق بالساحل السوري تفاديا لحصول مجزرة للعلويين
إنّه نظام يعتقد أنّ سوريا ملك له والسوريين عبيد لديه. الأهم من ذلك كلّه، يعتبر أن لا شيء تغيّر في سوريا وأن المواطنين على استعداد منذ الآن إلى التوجه إلى صناديق الاقتراع في السنة 2021 لانتخاب بشّار الأسد لولاية أخرى تمهيدا لانتخاب نجله الأكبر حافظ بشّار الأسد رئيسا في يوم من الأيّام!
أضاع العقل الذي أصرّ على إجراء انتخابات نيابية قبل أيّام قليلة كلّ فرصة تصبّ في إنقاذ سوريا وعودتها دولة طبيعية ضمن حدودها المعترف بها. يصعب العثور على شبيه لهذا العقل الذي يرفض الاعتراف بأنّ سوريا التي عرفناها انتهت وأنّ الاحتلالات الخمسة الموجودة حاليا وجدت كي يبقى قسم منها. سيبقى في أقلّ تقدير ثلاثة احتلالات. عاجلا أم آجلا، لن يجد الإيراني مجالا أمامه سوى الانسحاب من سوريا، فيما سيجد الأميركي طريقة للانسحاب بالتفاهم مع الروسي والتركي. لا تزال الإدارة الأميركية، التي يسيطر جيشها على قسم مهمّ من سوريا فيه النفط والغاز والمياه والأراضي الزراعية، أي ثروات البلد، مصرّة على الانسحاب قريبا من سوريا، في حال توفّرت الظروف التي تسمح بذلك.
سيبقى إذا التركي والروسي والإسرائيلي الذي لا يزال يراهن على بشّار الأسد من أجل استكمال تفتيت سوريا. كلّ ما يسعى إليه الإسرائيلي في الوقت الحاضر هو المحافظة على النظام القائم، نظرا إلى أنّ هناك مهمّة لدى بشّار الانتهاء منها. سيعمل على طريقته على التخلّص من الوجود الإيراني في هذا البلد. يحصل ذلك بالتفاهم مع الأميركي والروسي وحتّى مع التركي الذي يرفض الاعتراف بأنّه حسّن علاقاته مع إسرائيل إلى حد بعيد.
لا يعي النظام السوري أنّ تركيا لم تدخل الأراضي السورية كي تخرج منها يوما. تركيا موجودة في شمال سوريا وستتمدد أكثر في المستقبل القريب. لا شيء سيمنعها من ذلك في ظلّ غطاء روسي وأميركي. دخلت تركيا إلى قبرص صيف العام 1974. لا تزال تحتل قسما من الجزيرة منذ 46 عاما، فيما إسرائيل في الجولان منذ 1967 أي منذ 53 عاما… أي ما يزيد على نصف قرن!
الأكيد أن روسيا التي وقعت اتفاقات بعيدة المدى وافق عليها مجلس النواب السوري لن تتخلّى عن الساحل قريبا. صار الوجود الروسي على الساحل السوري جزءا لا يتجزّأ من تركيبة الدولة الروسية التي استعادت شبه جزيرة القرم قبل سنوات قليلة.
إنّه نظام يعتقد أنّ سوريا ملك له والسوريين عبيد لديه. الأهم من ذلك كلّه، يعتبر أن لا شيء تغيّر في سوريا وأن المواطنين على استعداد منذ الآن إلى التوجه إلى صناديق الاقتراع في السنة 2021 لانتخاب بشّار الأسد لولاية أخرى
بدل التلهي بانتخابات من نوع تلك التي أجريت في 19 تموز – يوليو، يفترض في النظام السوري التفكير في إنقاذ ما بقي من البلد. لم تتعدّ نسبة المشاركة في الانتخابات العشرة في المئة، على الرغم من كل الضغوط التي مورست على المواطنين، بما في ذلك طلّاب الجامعات. هناك مرحلة من تاريخ سوريا طويت. إنّها مرحلة النظام الأقلّوي الذي نشأ عمليا في الثالث والعشرين من شباط – فبراير 1966 لدى استيلاء الضباط العلويين على السلطة. لا يزال النظام السوري يبحث منذ ذلك التاريخ عن شرعية مفقودة أصلا. فسوريا منذ الثامن من آذار – مارس 1963، أي منذ نهاية ما سمّي عهد الانفصال الذي شكّل فرصة لعودة سوريا دولة ديمقراطية، تنتقل من سيء إلى ما هو أسوأ وصولا إلى عهد بشّار الأسد. لا يشبه النظام السوري، الذي جعل من بشّار الأسد وريثا لوالده، سوى النظام في كوريا الشمالية. حمت الحرب الباردة هذا النظام طويلا. حمته الصين لأسباب خاصة بها مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة… هل ستستطيع الصين حماية النظام السوري يوم ستتخلّى عنه إسرائيل؟
من سيستمر في حماية النظام السوري الذي استطاع منذ تسليم الجولان في العام 1967 إيجاد راع إسرائيلي له؟ الأكيد أن الانتخابات النيابية لن تساعد في إيجاد راع جديد. عاجلا أم آجلا سترفع إسرائيل يدها بعدما ستصبح متأكدة من أنه لن تقوم لسوريا قيامة في يوم من الأيّام.
هناك أنظمة انتهت صلاحيتها. لم يعد النظام السوري يصلح لأيّ مهمّة من أيّ نوع بعدما صار الشمال تركيا في معظمه والجولان إسرائيليا والساحل روسيا. سيشقّ ممرّ يربط دمشق بالساحل السوري تفاديا لحصول مجزرة للعلويين الذين انتقلوا إلى العاصمة السورية والمناطق المحيطة بها. هذا ليس وقت انتخابات نيابية. هذا وقت التفكير في الصيغة التي ستستقرّ عندها سوريا حيث افتقد بشّار الأسد حنكة والده ودخل في رهان خاسر على إيران أوصله إلى تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري التي أخرجته من لبنان. من يرتكب خطأ مثل خطأ المشاركة في جريمة اغتيال رفيق الحريري… أو تغطيتها، لا تنقذه انتخابات من أي نوع. سيبقى يبحث لاهثا عن شرعية مفقودة أصلا. إنّ البحث عن مثل هذه الشرعية هو مثل البحث عن وهم لا أكثر ولا أقلّ.
صحيفة العرب _ خيرالله خيرالله