أكرم البني/ الحياة
ثلاثة آراء يمكن التوقف عندها لتحديد أهداف القيادة الروسية من وراء تحريك المسار السياسي السوري، ودوافع تفردها في الدعوة لعقد مؤتمر في موسكو، أواخر الشهر الجاري، بين النظام وأطراف من المعارضة السياسية والمدنية…
لا يعطي الرأي الأول قيمة سياسية لهذه المبادرة على صعيد معالجة الصراع السوري، إما لأنها حراك في الوقت الضائع وتفتقد لدعم عربي وعالمي حاسم، وإما لأن دورها يقتصر على حاجة روسية لمغازلة جديد المرامي الأميركية بعد أولوية مواجهة تنظيم «داعش»، على أمل تخفيف العزلة وفتح نافذة في الجدار الذي وصلت إليه العلاقات بينهما جراء سياسة الكرملين المتشددة وخاصة في الأزمة الأوكرانية.
أمر يقدر اليوم من قبل واشنطن أن يكون عنوان المؤتمر، مواجهة الإرهاب وتجميع القوى حول دولة تتصدى للتمدد الإسلاموي الجهادي، فهذا يساعدها على خفض سقف اشتراطاتها حول تغيير النظام، والتهرب من واجباتها كدولة عظمى تجاه معاناة الشعب السوري ومن وعودها بتمكين المعارضة المعتدلة، وربما التحرر من التزامات جنيف – 2 ومن أعباء قرارات مجلس الأمن ذات الصلة التي تنص في جوهرها على تشكيل هيئة حكم انتقالي تقود البلاد نحو نظام ديموقراطي، ويدعم ما سبق تواتر الدعوات الغربية لإجراء مراجعة سياسية تعيد توجيه الجهود كي تصب جميعها في الحرب المعلنة على تنظيم «داعش» وأخواته.
بينما يذهب الرأي الثاني إلى اعتبار المبادرة الروسية مجرد محاولة لاعتراض أو إعاقة ما يصح تسميته توافقاً غير معلن بين واشنطن وطهران، أوضحه التنسيق العسكري اللافت بين الضربات الجوية الأميركية ضد قوات «داعش»، وبين دعم إيراني عملياتي لتقدم الجيش وفصائل عراقية مسلحة على الأرض، وإذا أضفنا ما يشاع عن محاولات بناء تفاهم أولي بينهما على هامش مفاوضات خمسة زائداً واحداً، يمكن أن تسفر، بعد لقاءات ثنائية مرتقبة، عن صيغة توافقية ترضي الجميع على صعيدي، الملف النووي وحصص النفوذ في المنطقة، وأضفنا أيضاً سلبية البيت الأبيض تجاه التمدد الحوثي في اليمن على رغم إطاحته نقاطاً مهمة من التسوية التي أقرتها الأمم المتحدة للصراع هناك، نقف عند أهم المؤشرات التي تثير قلق قيادة الكرملين وتزيد مخاوفها من نجاح تقارب بين واشنطن وطهران يشكل الخطر الأكبر على حضورها ومصالحها في المنطقة، ولا تضعف هذه المؤشرات بل تؤكدها بعض التصريحات النارية ضد الولايات المتحدة يطلقها عادة مسؤولون إيرانيون للتغطية والتمويه، أو الجهود التي يبذلها جناح الحرس الثوري المتشدد لإعاقة تعزيز النفوذ الأميركي في العراق، وتؤكدها أيضاً الزيارة الخاصة التي قام بها بوتين مؤخراً إلى تركيا واعتبرت في أحد وجوهها محاولة لاستمالة حكومة أنقرة للعب دور مشترك في مواجهة احتمال تطور توافق أميركي – إيراني يهدد نفوذهما في المنطقة.
الرأي الثالث يربط توقيت المبادرة بمحاولة موسكو استثمار بعض المستجدات المتعلقة بالصراع السوري لقطف ثمار تبدو ناضجة، وتالياً لتحسين أوراقها وقدرتها على المبادرة.. ونسأل، أليس أمراً طبيعياً أن تستفيد قيادة الكرملين من حالة ارتباك معارضة سورية تمر بمرحلة إعادة تموضع جراء التداعيات السياسية التي يفرضها التدخل العسكري الدولي ضد «داعش» وجراء تقدم تنظيمات جهادية، كجبهة النصرة وغيرها، على حساب التشكيلات العسكرية والمدنية المعتدلة في أرياف حلب وإدلب والقنيطرة؟! وأيضاً لم نستغرب أن تستغل موسكو ميل البيت الأبيض لتجميد جهوده في الملف السوري ومنح الساحة العراقية الاهتمام الأقصى، كي تملأ الفراغ وتعمل على تقريب المواقف بين بعض السلطة وبعض المعارضة عسى أن تشق طريقاً أمام تمكين الدولة وإعادة تأهيل النظام على قاعدة العمل المشترك في مواجهة الإرهاب؟!
ثم ألا يجوز تشبيه هذه المبادرة بحاجة روسية، تتناغم مع حاجة إيرانية مماثلة، لالتقاط الأنفاس والخروج من مستنقع استنزاف خاضتا فيه طويلاً، خاصة مع تصاعد العقوبات الاقتصادية على البلدين وتفاقم النتائج السلبية التي يخلفها الانخفاض المتواتر في أسعار النفط؟! وأيضاً كم ينفع موسكو اليوم أن تعزز حضورها وفاعليتها في الصراع السوري كي تلاقي خطة الموفد الأممي دي مستورا، في رهان على دعم هذه الخيار لفك الاستعصاء القائم وتخفيف أزمة النظام وإنقاذه من دوامة استمرار قتال لن ينتهي؟!.
أخيراً، إذا تجاوزنا دوافع موسكو من عقد مؤتمر الحوار السوري، وإذا افترضنا جدلاً أن المعارضة السياسية والمدنية قد حضرت موحدة وخرجت بعد اجتماع القاهرة بوثيقة توافقية، وافترضنا أيضاً أن النظام بات على استعداد نسبي لتقديم تنازلات في ضوء حالتي الاستنزاف والإنهاك اللتين وصلت إليهما مختلف قدراته، سيبقى المؤتمر مجرد محطة شكلية تضاف إلى محطات جنيف، ولن يعول عليه لدفع عجلة الحل السياسي إلى الأمام، ليس فقط بسبب محتواه الحواري والتشاوري أو لأن طول أمد الصراع بلور قوى يهمها استمرار الاضطراب القائم، وليس لعجز المعارضة عن التأثير في مجرى الأحداث أمام جبروت جماعات إسلاموية مسلحة، تتحكم بالأرض وترفض بشدة الحلول السياسية، وإنما أيضاً لأن الإدارة الأميركية لا تزال مترددة في وضع ثقلها وراء المعالجة السياسية، وربما لا تزال لديها مصلحة في استمرار الصراع السوري والاستثمار فيه.
والحال هذه، مع تعنت أطراف الصراع وغياب توافق دولي حاسم، ومع ترقب ما تفرزه شدة المأساة السورية من قوى مدنية تنبذ العنف، يرجح أن يبقى سقف التوقعات من محطة موسكو أو غيرها محدوداً، لكن ذلك لا يغير من مركزية الحل السياسي، ومن أهمية التمسك بمبدأ الحوار والمفاوضات، لكن القائم على أسس واضحة وعادلة تقود إلى إقرار خطة طريق توقف العنف وتخفف حدة الاحتقان المجتمعي وحالة التشظي وتضمن وحدة البلاد واستمرار مؤسسات الدولة، والأهم أن تلبي مطلب الناس بالتغيير الديموقراطي وبناء مجتمع مواطنة يلتزم بالمعايير الدولية حقوق الإنسان.