يس هذا المقال عن علي الشهابي، المناضل أو السياسي أو الكاتب، إنه عن علي المفقود أو المغيّب قسرياً. هو إذن عن المفقودين في سورية الذين توحّدهم ظلمة الفقد، وتوحّد ذويهم وأصدقاءهم مشقة البحث عنهم.
اختفى علي الشهابي في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2012 في دمشق. سعى، بكل نبله وشهامته، إلى الحيلولة دون وقوع مجزرة في مخيم فلسطين، مستنداً في مسعاه إلى وزنه المعنوي في المخيم. وفي اليوم التالي لاختفائه، حاول عمه (عمر الشهابي) الاستفادة من علاقاته، بصفته عضو مكتب سياسي في الجبهة الشعبية القيادة العامة، للتحرّي عنه لدى الفرع الذي يرجّح أنه اعتقله (فرع فلسطين التابع للأمن العسكري)، فأجابه رئيس الفرع آنذاك، سهيل رمضان، إن علي لديهم في الفرع، ويجري التحقيق معه. في اليوم التالي، دهمت دوريةٌ من الفرع إياه الغرفة التي كان يسكنها علي في المخيم، بعد أن هجر بيته الذي صار، حينها، ضمن منطقة الاشتباكات، وصادرت كمبيوتره، ما يؤكد أن علي كان لدى فرع فلسطين بالفعل.
المريب الذي حصل بعد ذلك أن عمر الشهابي كرّر الاستفسار من رئيس الفرع نفسه عن مصير ابن أخيه، فكان جواب رئيس الفرع أنه تم الإفراج عنه بعد 48 ساعة من اعتقاله، وأوصله إلى باب الفرع، ما تشكل شهادة واضحة على الكذب.
هكذا ضاع الخيط، وانضم أهل علي إلى آلاف الأسر السورية الباحثة عن أبناء ضاعوا في “بطن الغول”، حسب تعبير الروائية حسيبة عبد الرحمن. وقائع وأحداث مكرورة: تبليغ الصليب الأحمر، ثم القضاء العسكري الذي يحوّل الأهالي، حين لا يعثر على اسم المفقود بين أسماء الموتى، إلى مكتب الأمن الوطني الذي يحوّلهم بدوره إلى مكتب المصالحة الوطنية. هناك ينتهي المطاف، يأخذون الاسم ورقم هاتف الأهل على أساس أن يتصلوا حين يعثرون على المفقود، الأمر الذي لا يحدث.
عالم من متاريس وحواجز وتنصل من المسؤولية، وردود متأففة. عيون يائسة، ودم منهك، وانتظار بعد انتظار، وإهمال واحتقار، وضعف بشري مؤلم، يحيل القلب إلى ما يشبه البالون المثقوب. ثم عودة خاوية إلا من أمل مفتعلٍ يتكئ على الهواء.
بعد عام من انقطاع أخبار علي، أثمرت جهود ذويه وأصدقائه عن بصيصٍ من الأمل، جاء على شكل رد من “الحكومة السورية” في 31/12/2013، على استفسار مؤسّسة الكرامة لحقوق الإنسان عن مصيره. يقول الرد “إن علي الشهابي اعتقل على أرضية شكوكٍ حول نشاطاته، ولا يزال رهن التحقيق من السلطات القضائية المختصة”. “رهن التحقيق” بعد أكثر من سنة على اعتقاله؟ ولكن، لا يهم، ما يهم إنه على قيد الحياة، بات هذا الأمر الجوهري.
لم يعد الأهالي يأملون بخروج أبنائهم، بات أملهم يتركّز في بقائهم على قيد الحياة، لكن بصيص الأمل الذي أشعله ذاك الرد، راح يخفت مع مرور الأيام. السجناء القلائل الذين يخرجون من “بطن الغول” يذكرون أسماء من كانوا معهم، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي هناك من يعمل على نشر هذه الأسماء، فقد تعثر أسرة بائسة على اسم مفقودها. والقلق يثقل على أرواحهم من أن يصبح المفقود فقيداً. وبعد كل شيء، لم يعثر ذوو علي على اسم له.
كما لو من الهواء الخفيف، تناهى إلى سمع أهل علي أن سجيناً خرج ويقول إنه التقى علي في السجن. فجأة يصبح العالم أقل ثقلاً، ويصبح من الممكن للنهار أن يكون جميلاً. اتصالات وربط خيوط، متابعات واستفسارات، والأمل يضمحل أكثر كلما اقترب أكثر من المصدر المزعوم. سراب أو بالأحرى لا شيء.
في خريف عام 2014، يتقدّم ذوو علي بطلب “بحث عن مفقود” لدى القضاء العسكري. يجري تحويلهم إلى الشرطة العسكرية في القابون، حيث توجد قاعدة بيانات بأسماء المتوفين في السجن. يدخل العنصر إلى “مقبرة الكمبيوتر”، فيما يتعثّر الدم في شرايين المنتظرين. يخرج العنصر قائلاً: لا اسم له عندنا، ناصحاً بمراجعة مكتب الكفري في منطقة القزاز.
يقع المكتب في منطقة القزاز، يديره شخصٌ يدعى حسين الكفري، ويلقبه رجاله بالدكتور. عائلات كثيرة تنتظر. قدم أهل علي ورقة كشف عن مفقود، كغيرهم من الأهالي. “كان تعامل العناصر هناك غير عدائي” يقولون. بعد انتظار، جاءهم الرد: ليس علي الشهابي في قوائم الموتى، ولا يزال في فرع فلسطين.
لا يعلم الأهالي من هو الكفري، ولا يهمهم كثيراً أن يعرفوا. يقول العناصر العاملون في المكتب إنه تابع إلى المخابرات الجوية. ويبدو أنه حقق اختراقاتٍ ما لصالح بعض الأهالي، وهذا ما أعطى مكتبه هذه السمعة. واللافت أن مكتبه كان يقدّم الخدمات من دون مقابل مادي، وكأنه مؤسسة عامة تقوم بوظيفتها. وعلى كل حال، لم يستمر مكتب الكفري في العمل أكثر من ثلاثة أشهر.
ليس لعلي إذن اسم في “مقبرة الكمبيوتر”. ويؤكد مكتب الكفري أنه حي، ينبغي، والحال هذا، الذهاب إلى محكمة الإرهاب، للبحث عن اسمه بين أسماء المعتقلين الذين ينتظرون المحاكمة. المحكمة نفت وجود اسم له.
فاتنا أن نقول إن أهل علي قدموا في القصر العدلي طلب الكشف عن مفقود إلى وزير العدل، فجاءهم الرد بأنه “لا توجد مذكرة توقيف بحق المدعو علي الشهابي”. والحق أن لا شيء يشبه عبثية هذا الرد سوى عبثية تقديم الطلب، لكن الغريق يتعلق بخيوط الهواء. المحصلة أن الدولة الرسمية يجب أن نضيف هذه الصفة، لا دخل لها بعلي المفقود.
في المحاولة الأخيرة في محكمة الإرهاب، يقول العنصر بشيء من نفاد الصبر: لا يبقى السجين أكثر من سنة في الفرع، يُحال بعدها إلى المحكمة، ولا ينتظر أكثر من سنة أخرى. منذ متى اختفى فقيدكم؟ “منذ ثلاث سنوات”، “طيب افهمومها بقا”. ينظرون إليه، ويقولون بقهر: “عسى الله أن لا يفجعك بعزيز”، وينصرفون من دون رغبة في أن “يفهموها”، فقد سبق لهم أن قابلوا، خلال رحلة البحث الطويلة، أمهاتٍ أو زوجاتٍ استلمن هويات مفقوديهن لإجراء معاملة شهادة الوفاة، ثم استلموا بعد سنوات ورقةً زيارة لهم، بعد أن أكّد لهم أحد السجناء الخارجين إنه حي في السجن الفلاني.
العربي الجديد – راتب شعبو