استبعدت الولايات المتحدة إمكانية نشوء تحالف بينها وبين روسيا لمواجهة الإرهاب في سوريا، ما يعكس التباين الحاد في مواقف البلدين من مسار الحرب السورية، فيما وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صفعة جديدة إلى الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، متجاهلاً طلبه عقد لقاء على هامش قمة المناخ في باريس أمس، مكرراً اتهامه أنقرة بإسقاط طائرة الـ «سوخوي 24» في المجال الجوي السوري لحماية عملية تهريب تنظيم «داعش» للنفط إلى تركيا.
لكن بوتين ترك الباب موارباً لأردوغان لإيجاد مخرج للأزمة عبر إعلانه أن موسكو تلقت تأكيدات من الجانب التركي بأن قرار إسقاط الطائرة لم يتخذه أردوغان بل أشخاص آخرون، لكنه شدد على أن ما حصل خطأ كبير.
اردوغان، الذي يلتقي اليوم الرئيس الأميركي باراك أوباما، لم يغلق الباب نهائياً أيضاً، معلناً أن حكومته ستتصرف «بصبر لا بعاطفة» قبل اتخاذ أي إجراءات رداً على قرار روسيا فرض عقوبات اقتصادية على تركيا. وقال إن «تركيا تعمل على ضمان ألا تتمزق العلاقات بالكامل مع روسيا». وكانت السلطات الروسية أعلنت أنها ستحظر بشكل أساسي واردات المنتجات الزراعية من تركيا.
وفي الوقت الذي يشهد فيه ريف بلدة أعزاز قرب الحدود التركية معارك عنيفة بين «جبهة النصرة» و «قوات سوريا الديموقراطية»، المدعومة من الولايات المتحدة، تتجه الأمور في حمص إلى الحلحلة، مع اجتماع يعقد اليوم بين ممثلين عن الحكومة السورية ومجموعات مسلحة لبحث تسوية تؤدي إلى خروج المسلحين من حي الوعر. كما بدأت عملية إجلاء أكثر من مئة مسلح محاصرين منذ أكثر من عامين في قدسيا قرب دمشق إلى ادلب. (تفاصيل صفحة 10)
وقال بوتين، في مؤتمر صحافي على هامش قمة المناخ في باريس، «أعتقد أننا جميعاً نشعر بالأسف. وأنا آسف جداً، لأنني شخصياً فعلت الكثير لبناء هذه العلاقات على مدى فترة طويلة من الزمن».
وأشار إلى تلقيه تأكيدات من الجانب التركي بأن قرار إسقاط الطائرة الروسية داخل الأراضي السورية لم يتخذه أردوغان بل أشخاص آخرون، لكنه استدرك «بالنسبة لروسيا، لا يهم من قرر إسقاط طائرة السوخوي 24، فهو بأي حال خطأ كبير، وكانت نتيجة هذا العمل الإجرامي مقتل اثنين من جنودنا». ووصل جثمان الطيار الروسي إلى موسكو بعد نقله من أنقرة أمس.
وأكد بوتين «تلقي روسيا دليلاً إضافياً على أن كمية كبيرة من النفط الذي يستخرجه داعش تصل إلى الأراضي التركية»، مشدداً على أن «إسقاط الطائرة كان يهدف لتأمين سير وعبور النفط الذي يستخرجه داعش في سوريا للوصول إلى الموانئ التي يُصدَّر منها».
وأعلن أنه لم ير اردوغان أو يجتمع به في باريس، مشيراً إلى أن «ما يدَّعيه الأتراك من أنهم يحمون التركمان الموجودين في سوريا مجرد ذريعة»، مضيفاً «كل من التقيتهم يشاطروننا الرأي بأنه لم تكن هناك ضرورة لإسقاط طائرتنا، وهي لم تمثل تهديداً لتركيا»، في إشارة إلى اجتماعه مع أوباما ونظيره الصيني شي جين بينغ والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
وقال إن «المشاكل مع تركيا في مجال مكافحة الإرهاب داخل روسيا كانت موجودة منذ فترة طويلة، لا سيما عناصر المنظمات الإرهابية الذين نشطوا في بعض مناطق روسيا، بما في ذلك في شمال القوقاز، وهربوا إلى تركيا». وذكر بوتين بأن الطيارين الروس كانوا يكتبون على القنابل عبارتي «من أجل شعبنا» و «من أجل باريس». وتساءل «هذه المقاتلة (التي كانت تحمل العبارتين) أسقطتها طائرة تركية. عن أي تحالف نتحدث في هذه الشروط؟»، لكنه أضاف «سندافع دائماً عن فكرة تحالف موسع لكننا لن نتوصل إليه ما دام البعض يستخدم مجموعات إرهابية لخدمة مصالحه السياسية على المدى القصير».
وأعلن بوتين انه ناقش مع أوباما قوائم المجموعات الإرهابية ومن يمثل المعارضة السورية المعتدلة، موضحاً انه وأوباما لديهما فهم مشترك حول التسوية السياسية في سوريا. وقال إن «كان يجب أن نتحدث عن ضرورة التوصل إلى تسوية سياسية، فمن الضروري العمل على دستور جديد وانتخابات جديدة ومراقبة نتائجها».
وكانت الرئاسة الروسية ذكرت، في بيان، أن اللقاء المغلق بين بوتين وأوباما دام حوالى نصف ساعة. وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن الرئيسين «أيدا بداية تسوية سياسية» في سوريا، فيما أكد مسؤول في البيت الأبيض أنهما بحثا في «ضرورة إحراز تقدم في عملية فيينا للتوصل إلى وقف لإطلاق النار وحل سياسي للحرب الأهلية في سوريا».
وقال مصدر في البيت الأبيض إن «أوباما جدد قناعته بأن رحيل (الرئيس) بشار الأسد ضروري في إطار انتقال سياسي، مشدداً على أهمية تضافر الجهود العسكرية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية بدلاً من المعارضة المعتدلة». وأعرب أوباما عن «أسفه» لمقتل الطيار الروسي مجدداً دعواته إلى «نزع فتيل الأزمة» بين أنقرة وموسكو.
وأعلن الرئيس بشار الأسد، في مقتطفات من مقابلة مع التلفزيون التشيكي نشرت أمس، رداً على سؤال عما إذا كان يتعين على الأوروبيين الخوف من اللاجئين القادمين من سوريا، «إنهم خليط»، مشيراً إلى أن «غالبيتهم من السوريين الشرفاء الوطنيين، لكن هناك إرهابيين تسللوا بينهم وهذا أمر حقيقي».
تركيا و «الأطلسي» وأميركا
ورفض رئيس الوزراء التركي احمد داود اوغلو، في ختام لقاء في بروكسل مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، تقديم اعتذار عن إسقاط الطائرة. وقال «لن يعتذر أي رئيس وزراء تركي، وأي رئيس، وأي سلطة»، مضيفاً «لا يمكن لأي بلد أن يطلب منا اعتذاراً لأننا لم نفعل إلا واجبنا، أي حماية مجالنا الجوي وحدودنا».
وإذ كرر داود اوغلو أن تركيا «لا تريد أبداً التصعيد» مع روسيا، دعا موسكو إلى «إعادة النظر» في عقوباتها الاقتصادية، مشيراً إلى أنها «تتناقض» مع مصالح تركيا وروسيا على السواء. وذكر بأن تركيا ساندت روسيا حين فرض عليها الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية مشددة منذ صيف العام 2014 بسبب دورها المفترض في الأزمة الأوكرانية.
ودعا ستولتنبرغ إلى «الهدوء»، وحث روسيا على «لعب دور بناء في سوريا» عبر استهداف «الدولة الإسلامية، عدونا المشترك». وأكد «انه من حق تركيا السيادي الدفاع عن مجالها الجوي وسلامة أراضيها»، متحدثاً عن مخاطر حصول حوادث جديدة، فيما تشن روسيا والتحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة، ضربات في سوريا. وأعلن أن وزراء خارجية «الأطلسي»، الذين سيجتمعون اليوم وغداً في بروكسل، سيحاولون «تعزيز الآليات التي ستتيح خفض المخاطر، ومنع حصول حوادث مماثلة وتجنب تفاقمها».
وأعلن المندوب الأميركي لدى «الأطلسي» دوغلاس لوت أن الظروف الحالية ليست مؤاتية لتشكيل تحالف جديد لمحاربة الإرهاب بمشاركة موسكو. وربط استحالة تشكيل مثل هذا التحالف في الوقت الراهن باختلاف أهداف البلدين في سوريا. وقال «يكمن هدفنا في إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية، أما هدف روسيا فيتمثل في دعم النظام السوري في معركته ضد المعارضة». ونفى علمه بوجود أي خطط لإشراك الجيش السوري في الحرب ضد «داعش»، معتبراً أن «القوات السورية والنظام لم يظهرا أي استعداد للتركيز على مواجهة داعش».
وتلقت أنقرة دعماً جديداً من واشنطن، حيث أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية إليزابيث ترودو أن أدلة من مصادر أميركية وتركية «تشير إلى أن الطائرة الروسية انتهكت المجال الجوي التركي» برغم تحذير القوات التركية لها عدة مرات. ورفضت الإدلاء بتفاصيل بشأن أين تم استهداف الطائرة.
وأضافت ترودو أن الولايات المتحدة تؤيد حق تركيا في الدفاع عن مجالها الجوي، لكن من المهم في الوقت ذاته أن تتخذ أنقرة وموسكو خطوات لنزع فتيل التوتر على الجانبين. وتابعت «نحن بحاجة إلى أن نشجع الحوار الآن وأن نهدئ الوضع. المهم حالياً هو استمرار النقاش بين الجانبين». وأعلن البيت الأبيض أنه لاحظ «بعض التكثيف» في الضربات الجوية الروسية ضد «داعش» خلال الأسابيع الماضية.
جريدة السفير