لا يستطيع أحد أن يقلّل من خطورة الوضع الذي نشأ في لبنان بعدما أنجز الكونغرس الأميركي المراسيم التطبيقية أو التنظيمية للقانون الذي كان أصدره قبل أشهر، والذي خصصه لتجفيف المصادر المالية لـ”حزب الله” المُدرج على لائحة وزارة الخارجية في واشنطن للمنظمات الارهابية في العالم. فالحزب لا يستطيع الخضوع للقانون من دون أي “تدوير لزواياه” بعدما عجز لبنان الدولة، هذا إذا كان سعى جدياً، عن أقناع أصحاب القانون ومراسيمه بذلك. إذ أنه يشلّحه بيئته الحاضنة أي الطائفة الشيعية التي توالي غالبتيها الساحقة الثنائية الشيعية “الحاكمة” منذ عقود والراجحة الكفّة السياسية والعسكرية فيها لـ”حزب الله”. وجمعية المصارف اللبنانية لا تستطيع الامتناع عن تنفيذ القانون رغم مسّه النظري بالسيادة كونه أميركياً لا عالمياً أي صادراً عن الأمم المتحدة. ذلك أنه صار ولأسباب شرحتها وسائل الاعلام مرات عدة، جزءاً من نظام مالي ونقدي دولي لا يمكن تجاهله، ولا يمكن تفادي عقوبات خرقه وإن فرضتها أميركا وليس الأمم المتحدة، إلا اذا قرّر الخارقون الانتحار. كما أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامه وجد نفسه “بين شاقوفين” كما يقول المثل اللبناني. الأول هو الحرص على المصارف لأن قطاعها لا يزال صامداً وناجحاً بخلاف القطاعات الاقتصادية الاخرى المتردية أو السائرة نحو الانهيار. والآخر هو أولاً الحرص على مكوّن أساسي في لبنان أي على أحد “شعوبه” أي الشيعة بعامتهم ورجال مالهم والأعمال الذين سيتأذون كثيراً جرّاء ما سيصيبهم من أضرار مباشرة وأخرى غير مباشرة مثل إقفال أو إضعاف مؤسساته التربوية والاجتماعية والاستشفائية. والآخر هو ثانياً الحرص على السلم الأهلي في البلاد. إذ أن “حزب الله” الذي صار قوة إقليمية مهمة سياسياً وعسكرياً، والذي كان ولا يزال قوة محلية مهمة سياسياً وعسكرياً أيضاً رغم ما يتكبده من خسائر بشرية في سوريا وربما في غيرها من الساحات، أن هذا “الحزب” لن يسكت على استهدافه سواء مباشرة أو عبر بيئته الحاضنة وإن تسبب ذلك بتدمير هيكل الوطن فوق رؤوس الجميع خصوصاً أنه أساساً صار متداعياً وقريباً من الانهيار.
طبعاً يتحدث بعض الخبثاء عن “شاقوف” ثالث وجد سلامة نفسه في مواجهته هو طموحاته الرئاسية التي يعرفها الناخبون الكبار والاقليميون ومنهم “حزب الله” والتي تفرض عليه التصرّف بمرونة لايجاد الحلول.
ما الذي حصل فعلاً وتسبّب بأزمة بعد صدور المراسيم التنظيمية او التطبيقية للقانون الأميركي الذي استهدف “حزب الله”؟
ما قامت به جمعية المصارف معروف إذ نشرته وسائل الاعلام على تنوعها. وما قام به الحاكم كذلك. إلا أن ما قام به “حزب الله” ومع أشيع أنه قد يقوم به سواء من مؤيديه أو من أعدائه، وإن أخذ المساحة الأكبر في الوسائل المشار إليها، بقي خاضعاً للتحليل والتخمين والتكهّن. لذلك من الضروري الحديث عنه بعد الاطلاع على المعطيات والمعلومات اللازمة من “منابعها”. إذ ربما يدفع ذلك المعنيين كلهم الى التروي، إذا كانت “متفجرة بنك لبنان والمهجر” لم تدفعهم إليه. فضلاً عن أنه سيهدّئهم ويعيد تذكير كلّ منهم بدوره الايجابي في المراحل الصعبة التي واجهوها سابقاً. فـ”حزب الله” يعرف أن حاكم مصرف لبنان قدّم إليه خدمات كثيرة والاخير يعرف خدمات “الحزب” له. وأميركا تعرف ما قدمه لها الحاكم من خدمات وهو يعرف ما قدمته له منها.
ما هي المعطيات والمعلومات المشار إليها؟
يجيب قريب جداً من “حزب الله” بأن “الحوار بين قيادته و”الحاكم” كان مستمراً ولم ينقطع يوماً، وبأنه لا يريد أن ينتحر ولا يُريد في الوقت نفسه أن ينحر لبنان. وكان يجب توقّع ما حصل منذ بدء الكونغرس التفكير في إصدار القانون المعروف ومباشرة البحث فيه، وتالياً العمل في الداخل اللبناني ومع واشنطن من أجل التوصل الى صيغة تطبيقية لا تؤذي البيئة الحاضنة لـ”الحزب”. لكن أحداً من المسؤولين اللبنانيين لم ينتبه الى هذا الأمر في الوقت المناسب. وعندما انتبهوا كان الوقت فات بدليل فشل زيارات الوفد النيابي اللبناني ووزير المال لأميركا وغيرهما في تغيير أي شيء. تواصلت مبادرة “الحزب” مع الحاكم سلامة بعد نشوب الأزمة فقال إن المصارف تضغط عليه لخوفها من عواقب رفضه تطبيق القانون بعد صدور مراسيمه التطبيقية أو الاستنساب في ذلك. وقال أيضاً أن أميركا تضغط عليه. وبدا للقيادة أن بعض المصارف كان متحمساً أكثر من اللازم للتنفيذ. وأحد المصارف، وهو من الكبار اعتبر ذلك فرصة لحل مشكلة له مع أميركا تتعلق بالاشتباه في دور له في عملية تبييض أموال مع سوريين. وأحدها أيضاً وهو من المصارف المهمة كان أكثر حماسة من المصرف المشار اليه. إذ أن لائحة المشتبه بهم أو المطلوب إقفال حساباتهم تضمنت اسم الراحل “المرحوم” محمد حسين فضل الله. فاجتهد أصحابه وقرروا اقفال حسابات “جمعية المبرّات الخيرية”. علماً أن حماسته كانت ظهرت يوم سلّم وزارة الخزانة الأميركية ملفات الحسابات المشتبه فيها لمصرف اتهمته بتبييض أموال فباعه أصحابه بمسعى من الحاكم سلامة”. يتابع القريب جداً نفسه من “حزب الله” فيقول “إن قيادة الأخير توصلت الى تفاهم مع الحاكم، فقال كلاماً ايجابياً في خطاب ألقاه في باريس. وقضت الصيغة بأن تحيل المصارف الحسابات المشتبه بها الى هيئة تحقيق في مصرف لبنان الذي يقوم خلال 30 يوماً بدرسها فإما يعطي قراراً في شأنها واذا لم يفعل يتخذ المصرف قراره. لكن ما قاله سلامة لتلفزيون C.N.B.C الاميركية “نقّز” قيادة “الحزب” لما تضمنه فأصدرت كتلته النيابية بياناً قاسياً اعتبر أقواله “مريبة وملتبسة”. ولا يفيد هنا التذرّع بالاجتزاء والاقتطاع. فهو أخطأ في ما قال وأقر بذلك أمام قريبين منه. فضلاً عن أن بعض المصارف أقفل الحسابات المشتبه فيها ثم أرسلها الى هيئة التحقيق في المصرف المركزي خلافاً للاتفاق. لكن استئناف الحوار توصل الى منع ذلك بقرار من سلامة والى التفاهم على تمديد مهلة الـ30 يوماً الى 60 إذا قضت الحاجة بذلك. لكن التمديد غاب عن تعميم مصرف لبنان من دون أن يتسبب بمشكلة إضافية لأن الحاكم وعد بأن التمديد سيُحترم وإن لم يتم النص عليه خطياً”.
في النهاية هل يمكن القول إن “قطوع” القانون الأميركي التنفيذي أو مراسيمه التطبيقية انتهى على خير وأن القطاع المصرفي نجا من “هزّة” كادت تطيح استقراره؟
عن هذا السؤال هناك جوابان، واحد يعتبر أن القطاع المذكور نجا، لكن لا بد من استمرار التيقّظ والحكمة عند المصارف و”حزب الله” ومصرف لبنان. وآخر يعتبر أن المشكلة واقعة وستعود الى الواجهة لأن القرار الأميركي استهداف “الحزب” من خلال بيئته الحاضنة لا عودة عنه. فالمراسيم وطبعاً القانون يُقال أن عدد صفحاتها تجاوز الـ900. ويعني ذلك أن الأسماء المشتبه فيها في اللوائح تبلغ آلافاً. وأصحاب كل من الجوابين لا يمكن الاستهانة بمعلوماتهم ومعطياتهم وعلاقاتهم.
النهار