تعاطت السياسة الأميركية مع الحدث السوري من زاوية رفض الانحياز الكامل لأحد طرفي الصراع، ورفض الحل العسكري بالكامل، وأن الممكن الوحيد في سورية هو الحل السياسي، بما يمثل طرفي الصراع. تعقّدَ الصراع نفسه بفعل التحالفات الإقليمية والدولية التي أقامها كل من طرفيه، فالنظام استعان بإيران وأدواتها من لبنان والعراق وأفغانستان وسواها، واستعانت المعارضة بدولٍ إقليمية ودولية ممسوكة أميركياً، وكان من جرّاء ذلك تصفية الثورة السلمية والانتقال إلى العسكرة والسلفية، وانتقال النظام من القمع إلى الدمار والقتل، وأدى هذا إلى تفكّك قوى النظام القمعية نفسها، وكذلك تفكّك الفصائل الوطنية السورية، وأصبحت سورية بعد ذلك محكومةً بدويلات، تبدأ من دويلة النظام، ولا تنتهي بـ “داعش”.
تطورت الأحداث وطال أمدها، وذلك لم يمنع الأميركان من التنسيق المستمر مع الروس، من أجل إدارة الصراع في سورية. الإشكالية هنا أن الأميركان أرادوا تمكين روسيا في سورية، كما حال موقفهم الضعيف منها في أوكرانيا وجورجيا. وهذا يأتي في سياق صراع دولي بين الصين وأميركا التي تبتغي من ورائه جذب روسيا إليها، أو تحييدها في ذلك الصراع. توضح هامشية العقوبات المفروضة على روسيا أو المواقف “الباردة” ضدها ذلك. ويتجاوز الموقف الأميركي إزاء سورية الدور السلبي للرئيس أوباما في الانسحاب من العراق وأفغانستان، فهو موقفٌ ينطلق من مصالح عالمية متخوفة من الصين بالتحديد.
تعلم المافيا الروسية الحاكمة القامعة للداخل الروسي، والراغبة بدور دولي، جيداً الصراع الدولي بين الصين وأميركا، وتتحرّك في هذا الإطار؛ هذا السياق هو ما شجع روسيا على الإمعان في البلطجة في سورية، والتي انتقلت من تدخل عسكريٍّ جويٍّ في 29 سبتمبر/ أيلول 2015، إلى رفده بقواتٍ بريةٍ محدودة في سبتمبر/ أيلول 2016، والرد على ضربة القوات الأميركية للجيش السوري بقصف شاحنات المساعدات الدولية للأحياء المحاصرة في حلب، وإيقاف الهدنة المعلنة، أخيراً، بين أميركا وروسيا، في إطار التنسيق بين الدولتين. الرد الروسي العنيف وإعلان النظام السوري إيقاف الهدنة جعلا الموقف الأميركي في أسوأ حالاته، ففي هذا استهانة كاملة بالأميركان، وهذا ما دفع أميركا إلى تعليق التنسيق مع روسيا، وكان هذا بتشجيع كبير من دوائر الجيش والاستخبارات الأميركية للقيادة، وبضغط دولي من الدول الأوروبية بالتحديد.
ترافق إيقاف التنسيق مع تصريحات أميركية عديدة ضد السياسة الروسية في سورية، منها أن كل الخيارات ضد النظام السوري ممكنة، بما فيه الخيار العسكري كضربات محدودة. وما زال الخيار الأخير ملتبساً والكلام حوله غير دقيق؛ المهم هنا أنه، ولأول مرة، يتم إيقاف التنسيق مع روسيا، بينما كانت الخلافات المستمرة في إدارة الملف السوري تُحل بالتفاوض المباشر بين وزيري خارجية الدولتين، أو رئيسيها. الموقف جديد كلياً. ولكن، هل هناك فعلاً تغيير ممكن في السياسة الأميركية إزاء الوضع السوري؟
تفيد متابعة السياسة الأميركية في العراق وأفغانستان وليبيا وسورية بأن لا تغيير كبيراً ممكن في سورية. تضع أميركا سياساتها وفقاً للأخطار الدولية والهيمنة الدولية على العالم، والخطر الحقيقي ما زال هو نفسه، أي الصين، لكن ذلك لا يعني السماح “ببلطجة” عالمية كبيرة لأية دولة، ولو كانت روسيا، فسورية مُقادة، ومنذ تدخل الأميركان في الائتلاف الدولي ضد “داعش” من أميركا وروسيا بشكل عسكري، يأتي عدم رفض أميركا التدخل الروسي في هذا السياق، فروسيا أكّدت أن الحل في سورية سياسي، وليس عسكرياً، وأنها قادمة لمواجهة التنظيمات الجهادية. الإشكال الجديد أن ما تفعله روسيا في مدينة حلب يقول بمحاولتها اجتياح المدينة، وهو ما دأب النظام السوري على تكراره. هذا يعني استخفافاً كاملاً بالتنسيق الدولي بخصوص سورية، وضرباً لكل العلاقات الأميركية مع دول المنطقة؛ فلكل هذه الدول مصالح في سورية الآن، ومن غير المسموح به أن تتفرّد روسيا بسورية، وهذا لا يتعارض مع تمكين أميركا لروسيا في سورية.
إذاً هناك تجاوزات كبيرة للروس، ولا بد من وضع حد لها، وإعادتهم إلى الصواب، أي إلى الحل السياسي؛ طبعاً الانتخابات الأميركية تلعب دوراً في ذلك، فمن غير المسموح به أن تتهمَّش أميركا أكثر فأكثر في اللعبة السورية، وربما إيقاف التدهور في المواقف الأميركية، وعدم تسليم الإدارة المقبلة اتفاقاً سياسياً ودولياً “مذلاً” يعطي لروسيا الحق شبه الكامل في التصرّف بمستقبل سورية.
من أكبر الأوهام الاعتقاد أن أميركا ستدخل حرباً ضد روسيا في سورية، أو أن الحل العسكري سيُعتمد خياراً أميركياً، وسيتم دعم الفصائل على الأرض، فأميركا ستقوم بتحركاتٍ جديدة بالتأكيد، وستعمل على إيقاف الانفلات الكبير للروس في حلب، وقد توجه ضرباتٍ محدودةً لبعض مواقع النظام، ولن تمنعها التصريحات الروسية، أخيراً، عن أن جنوداً روساً أصبحوا في الجبهات كافة مع الجيش السوري، فالضغط الدولي وحجم الهمجية الروسية المنفلتة والاستخفاف الكبير بالدور الأميركي في سورية تشكل ضاغطاً حقيقياً لإيقاف تلك العربدة، وليس من شيء آخر.
الحجة الروسية بضرورة خروج جبهة فتح الشام من حلب لإيقاف الحرب، وأن تنفذ أميركا تعهداتها بالضغط على الفصائل المحلية، للانفكاك عن “فتح الشام” هناك، حجة تُعطي تبريراً للأميركان المترددين ليخففوا من موقفهم الجديد المحتمل، لكنها حجة كاذبة، كما يعرف الأميركان جيداً، ففتح الشام ستتراجع مواقعها في سورية حينما يحصل توافق حقيقي على الحل السياسي، وتثق المعارضة بذلك، وهو ما سيُباعد بين الفصائل والجهاديين بالعموم.
إذاً لن يكون هناك مواقف جديدة للأميركان، والممكن الوحيد تصعيد جزئي ضد روسيا وبعض مواقع الجيش السوري، لتعود إلى جادّة الصواب، وأن وجودها في سورية هو بموافقة أميركية، وليس تعبيراً عن هيمنة روسية عالمية، وقادرة على فرض شروطها بقوتها دولة عالمية.
العربي الجديد – عمار ديوب