الـ29 من أغسطس عام 1967 وبعد هزيمة عسكرية ثقيلة ومذلة منيت بها كل من مصر وسوريا والأردن والجيوش العربية وحكوماتها من خلفهم، 6 أيام فقط كانت كفيلة بهزيمة الجيوش العربية المتقدمة ضعيفة التسليح معدومة التخطيط فيما عرف يومها بالنكسة. في هزيمة أفضت وأنتهت إلى خسارة العرب لسيناء المصرية والجولان السورية وغزة والضفة الغربية، يومها اجتمع قادة الدول العربية في قمة عربية جديدة معلنين من العاصمة السودانية لالآت ثلاث هي لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض، دارت السنون وتقلبت الأزمان وعاد الصلح ممكناً والاعتراف حلاً والتفاوض أمنية بل ومن عاصمة اللالآت الثلاث نفسها الخرطوم.
لقاء سري أو ما كان من المفترض أن يكون كذلك في عنتيبي الأوغندية جرى بين رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو بل ورئيس جهاز مخباراته الموساد بالفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي السوداني الذي جاء في بعد مزاوجة بين طرفين أحدهما عسكري والآخر مدني لقيادة فترة انتقالية ستسمر لمدة 39 شهراً بعد ثورة شعبية أطاحت بالرئيس المخلوع عمر البشير ليعلن هذا اللقاء فصلاً جديداً في علاقة متوترة وطويلة بين السودان والكيان المحتل فما هي قصة العلاقة السودانية الإسرائيلية.
الـ19 من ديسمبر كان صرخة ميلاد الدولة الوليدة من داخل برلمانها الذي أعلن استقلال البلاد قبل أن يتم الجلاء البريطاني ويرفع علم الدولة الوليدة في الأول من يناير عام 1956، تاريخ أعلن ميلاد السودان وأشعل معه رغبات دفينة مطالبة بإنفصال جنوبي يرى في نفسه مكوناً مختلفاً عن جاره الشمالي رافعاً صك التفرقة والتهميش الذي يلاقيه سوادنيو الجنوب من قبل الحكومة الوليدة لتنطلق الحركة الانفصالية بتمرد سبق إعلان البرلمان بيوم واحد فقط بفيلق من قوات الدفاع الإستوائي قبل أن يتوسع إلى حاميات أخرى كياي وجوبا، ورغم قمع التمرد الغير منظم وتحوله إلى ما يشيه حرب العصابات فقد كان النواة الحقيقية لتطور أكثر جدية وخطورة بولادة الحركة الانفصالية المنظمة الأولى المعروفة بالأنانيا.
المنافع الإسرائيلية فهي تكمن في توقيت اللقاء الذي جاء أثناء حديث ونقاش محتد حول صفقة أمريكية للسلام أسمتها بصفقة القرن ليشكل اللقاء انتصار سياسي جديد بإنضمام أحد عناصر محور الممانعة إلى محور التطبيع المتصاعد
سم الأفعى يشل البلاد
أنانيا أو سم الأفعى كان الاسم للحركة المسلحة المنظمة الأولى فبعد مرحلة متأرجحة وضعيفة شهدت الحركة تطوراً وتنظيماً ملحوظاً بداية من منتصف الستينات بدخول لاعب جديد ألا وهو الكيان الصهيوني. إسرائيل التي كانت تعاني من صراعاتها عربياً مصرياً غرباً وسورياً شرقاً نظرت إلى السودان كعمق حقيقي يمكن من خلاله ضرب وإشغال الطرف المصري وهو ما كان من خلال تقديم الدعم اللوجستي لأعضاء الحركة اللذين تلقوا تدريباً عسكرياً بإعترافهم على لسان أحد قادتها جوزيف لاقو الذي تلقى تدريباً عسكرياً في إسرائيل لمدة 6 أشهر أو رئيس حركة تحرير السودان المسلحة جون قرنق ليقود الحركة التي جاءت لتكمل مشوار أنانيا الممتد حتى توقيع إتفاق للسلام بينها وبين الحكومة السودانية برئاسة جعفر نميري عام في الـ3 من مارس عام 1972 والتي منحت الجنوب تقريباً حكماً ذاتياً وعين قائد الحركة جوزيف لاقو نائباً لرئيس السودان.
مع توقيع اتفاق السلام تراجع الدور والدعم العسكري بالسلاح المباشر أو واللوجستي بالتدريب لتلك الحركات المسلحة، لكن تلك المرحلة شهدت حدثاً فريداً في العلاقة السودانية الإسرائيلية من خلال السماح ليهود الفلاشا الإثيوبيين بالسفر إلى فلسطين المحتلة من خلال الأراضي والأجواء السودانية فقد تمت خلال عهد الرئيس نميري وبشكل سري ترحيل يهود الفلاشا في مرتين. كانت الأولى بترحيل أكثر من 8000 منهم في عملية عرفت بعملية موسى عام 1984 بعد لقاء جمع الرئيس جعفر نميري وآرييل شارون ورجل الأعمال عدنان خاشقي.
بعد انكشاف العملية الأولى والتي كانت تقلع من الخرطوم بعد قدوم اليهود من معسكرات للنازحين بالحدود الإثيوبية ومنها إلى منطقة القضارف ومن ثم من الخرطوم إلى بروكسل ثم إلى تل أبيب لتتجدد المحاولة بعدها عام 1985 في عملية أخرى أطلق عليها عملية سبأ بتدخل من جورج بوش والذي كان يعمل نائباً للرئيس حينها بمعاودة الاتصال بنميري وتم من خلالها ترحيل أكثر من 20000 ألفاً من يهود الفلاشا من مطار بمنطقة العزازا شرقي السودان. لتسهم تلك الرحلات وفي الوقت التي كانت فيه إسرائيل بأشد الحاجة إلى المهاجرين لتوسيع نشاطها الإستيطاني ليشكل الفلاشا اليوم أكثر من 140 ألفاً بنسبة 2 بالمئة من تعداد السكان حسب تقرير مركز الإحصاء الإسرائيلي لعام 2017.
بعد 11 عاماً من السلام النسبي عاد الصدام المسلح بإبطال بعض بنود التقسيم للمناطق الإدارية الجنوبية والتي منحتها حكماً شبه فدرالي وذاتي لتنطلق الموجة الثانية من الحرب بشكل جديد يقوده الكولونيل جون قرنق بداية منذ العام 1983 ويعود معها الدعم الإسرائيلي وإن كان تأثر بحالة من الصلح بين السودان والجارة الإثيوبية بعد فرار حليفها هناك منغستو هيلا ميريام عام 1991، إلا أنها استمرت بتقديم الدعم وإرسال الخبراء وتقليب الطرف الجنوبي وتشجيع حركته الإنفصالية خصوصاً بعد إكتشاف كميات كبيرة من النفط في الجنوب. لتستمر الحرب حتى عام 2005 حين وقع إتفاق نيفاشا والذي وضع حداً لصراع طويل انتهى بحق تحديد المصير والذي أدى إلى إنفصال السودان رسمياً في الـ9 من يوليو عام 2011.
بعد أن كانت إسرائيل أحد أول الدول التي قامت بافتتاح سفارتها بالبلاد الجنوبية الجديدة التي اقتطعت أكثر من 90 بالمئة من النفط السوداني إضافة وإكمال إحكام قبضتها على منابع النيل يكمن الدور الذي تطمع إسرائيل بلعبه من خلال السودان شمالاً هذه المرة هو ألأهمية النابعة من هذا اللقاء أكثر من مخرجات اللقاء نفسه. فالسودان الذي يمر بظروف اقتصادية صعبة بسبب الإنفصال التي لعبت إسرائيل فيه دوراً جوهرياً كما ذكرنا يأمل في الخروج من عزلة دولية أدت إلى عزله وتحجيمه اقتصادياً بسبب الحظر الأمريكي للسودان وتصنيفه كأحد الدول الراعية للإرهاب نتاج إستضافة السودان لأسامة بن لادن مطلع عام 1990 من قبل النظام السابق.
إذاً منافع اقتصادية ورفع للحظر وخروج من العزلة هو مطمح سوداني من خلال محاولة استرضاء الأم المدللة للإسرائيل حتى ولو قاد الأمر إلى التطبيع معها وهي التي كان جواز سفرها بالأمس يحمل في صفحاته الأولى اقتباسا يدل على أن حامل هذا الجواز لا يحق له السفر ولا دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل إسرائيل. أما المنافع الإسرائيلية فهي تكمن في توقيت اللقاء الذي جاء أثناء حديث ونقاش محتد حول صفقة أمريكية للسلام أسمتها بصفقة القرن ليشكل اللقاء انتصار سياسي جديد بإنضمام أحد عناصر محور الممانعة إلى محور التطبيع المتصاعد والمستمر خاصةً أن الاتفاق يأتي في فترة يعاني فيه نتنياهو وترامب على الصعيد الداخلي ما يجعلهما يصدرانه كانتصار جديد لسياستهما. إضافة إلى المكسب المتمثل في موقع السودان الإستراتيجي ضمن مجموعة من الدول المطلة على القرن الإفريقي ما يسهم في تعاظم الدور الإسرائيلي بهذه المنطقة سواء على مصب النيل أو مضيق باب المندب وسيطرتها على مداخل ومخارج البحر الأحمر.
يشكل الرفض الشعبي الكبير في السودان للتطبيع أحد أهم العقبات التي ستواجه التوجه الجديد للتطبيع ورغم الزيادة الملحوظة التي تشهدها الجالية السودانية في إسرائيل ورغم عدد وجود أرقام رسمية فقد أعلن الخط الساخن للهجرة أن إسرائيل استقبلت 17000 مهاجراً إفريقياً منهم 5000 سودانياً من خلال سيناء حتى عام 2006. أما الوعد الأمريكي برفع السودان من قائمة الإرهاب فيبقى موقع شك وعدم ثقة كبير فالسودان ظل يقدم التنازلات سواء على العلن أو السر طمعاً في ذلك مع استمرار الحكومات الأمريكية المتتابعة في تجديد بند التعليق لاستخدام الأمر في الضغط على الحكومة السودانية كلما لزمت الحاجة، فبداية من وعد برفع تلك العقوبات حالة تم منح الجنوب حق تحقيق المصير وصولاً إلى العودة للتطبيع مع إسرائيل اليوم. يبقى السؤال المطروح عن مدى استفادة السودان من توجهه الجديد، وهل سيؤدي تنازله الجديد لرفع العقوبات عن كاهله؟ يبقى تخيل ذلك صعباً فقائد العربة لا يتخلى أبداً عن قطعة الجزر التي تدفع عربته إلى الأمام دائماً.
الكاتب: محمد صلاح حسين
نقلا عن: مدونات الجزيرة