إن فشل انقلاب أصدقاء أمريكا في تركيا شكل ضربة قاصمة للسياسة الأمريكية التي لا تتحرك إلا ضمن الخطط الاستراتيجية القطعية، وبعد فشل الانقلاب أصبحت تتخبط ضمن احتمالات المستقبل التي لا يمكنها التنبؤ بها، وبالأخص أن أمريكا أصبحت في مواجهة أول دولة مستقلة تتفنن في خططها، ولا تسير برؤية مستشارين أمريكيين أو بريطانيين كما هي عادة كثير من دول العالم الإسلامي!!
إنه أول انقلاب عسكري يقوم به أصدقاء أمريكا ويفشل.
عدا عن أن تركيا اتبعت خلال الفترة السابقة للانقلاب سياسة الصبر المفْرِط، مما أظهرها أمام الشعوب الغربية المغفلة على أنها حامية للديمقراطية والإنسانية والحرية، وأن أمريكا تمنع المنطقة الآمنة التي ستحمي المدنيين.
ثم أغلقت تركيا الأبواب أمام التحرك العسكري البري الأمريكي على الأرض السورية، مما اضطرها للدخول عن طريق الـpkk، فأصبحت تجلس في أحضان منظمة سجلتها الحكومات التركية العلمانية السابقة -عالمياً- على أنها إرهابية، فلم يبق لأمريكا أي حجة تتذرع بها لمهاجمة تركيا سياسياً.
فهل سيدفع ذلك أمريكا للدخول في مواجهة عسكرية مع تركيا لحماية مصالح إسرائيل في المنطقة؟!!
إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج منا معرفة مجموعة من الحقائق:
1- تركيا لم تقترب -ولا أظنها تقترب- من منابع البترول التي تمركزت فيها أمريكا؛ ولا فرق حينئذ بين أن يكون السبب: دينياً بالبعد عن منطقة المجازر في منطقة الذهب الأسود الذي أخبر الحديث أنها ستحصل في آخر الزمان، أو سياسياً حتى لا تثير حفيظة أمريكا التي تمثل السيطرة على البترول خطاً أحمراً بالنسبة لها بهدف دعم اقتصادها المتأرجح.
2- أمريكا لم تدخل معركة عسكرية في تاريخها الطويل إلا وخسرتها، مع أنها كانت تواجه فيها ميليشيات ولا تواجه فيها جيوشاً؛ من فيتنام، إلى الصومال، ثم العراق وأفغانستان. فكيف ستواجه اليوم دولة كتركيا قوية اقتصادياً؛ تأكل مما تزرع، وتقاتل بما تصنع؟!
3- لم يعد اقتصاد أمريكا ولا سياستها يساعدان أمريكا في تحقيق انتصار إعلامي كالانتصار الإعلامي الجبار الذي أحرزته أمريكا في حروبها العسكرية الخاسرة السابقة؛ من رامبو في فيتنام، وتضخيم قوة العراق وصربيا قبل ضربهما، وبوادر ذلك واضحة في معركة الصومال، وفي انفضاح قضية العراق قبل أن تحقق أهدافها كاملة.
ولكن على فرض انتصارها إعلامياً في تغطية خسارتها العسكرية في مواجهة تركيا، فهل هذا سينفعها في تمرير سياساتها في المنطقة كما فعلت في مواجهاتها لمليشيات فيتنام والصومال وأفغانستان والعراق، أم سيؤدي إلى خسارة مضاعفة؛ لأنها هنا تواجه دولة ولا تواجه ميليشيات، وبالتالي ستؤدي خسارة أمريكا لمزيد من التقدم التركي على الأرض، وبالأخص أن العمق الاستراتيجي الديني يساعد تركيا على ذلك!!
4- أمريكا لم تعد تدخل أي معركة لوحدها، فمن سيدخل معها في معركة صعبة ومعقدة من هذا النوع إذا قررت ذلك؟!
فبريطانيا طارت حكومتها بسبب كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، فخسرت بريطانيا، وقطفت أمريكا الثمار، وفرنسا يصعب عليها تحريك قوات كبيرة خارج الحدود، وتحريك هذا الموضوع أمام شعوب الدول الأوروبية الأخرى ربما يثيرهم لقراءة تفاصيل ما يحصل في المنطقة، وبالتالي معرفة الحقيقة قبل اكتمال المشروع الأمريكي غير المدروس استراتيجياً، وبالتالي مهاجمته من الشعوب الأوروبية، فستفسد أمريكا حينئذ على نفسها من حيث تظن نفسها أنها تصلح صورتها العالمية.
5- يبقى أمامنا الخوف من خطوة القرارات القذرة التي لا تتردد أمريكا في استخدامها حين تنحشر في الزاوية، وهي القرارات التي تخافها كل دول العالم، وذلك كما فعلت مع اليابان في هيروشيما ونجزاكي على سبيل المثال. والحقيقة أن خطوة من هذا النوع هي مرعبة لأمريكا أكثر مما هي مرعبة لتركيا، فتركيا زرعت الصناعات الثقيلة في عهد أربكان، لتحصد صفر ديون في عهد أردوغان!! ولا يمكن أن يتنبأ أحد بما ستحصده من اتفاق الدول الإسلامية الثمانية الذي زرعه أربكان من قبل!! فعلاقات تركيا وتحالفاتها السرية أكبر بكثير من تحالفاتها العلنية مع روسيا، وتُشَكِّلُ هاجساً مرعباً لأمريكا، لكونها مع دول إسلامية، وليست مع دول شرقية أو غربية، والذي يروض دباً روسياً، فلن يصعب عليه ترويض الحيوانات الأخرى الأصغر والأقل شراسة حول العالم.
6- روسيا لم تنحز إلى تركيا إلا بعد أن تأكدت أنها ستخرج من اللعبة السورية بخفي حنين كما خرجت بريطانيا من العراق، وبالتالي فهي لن تستطيع جني الثمار إلا إذا استطاعت الضغط على المجتمع الدولي لإقرار منطقة آمنة في شمال سوريا، ومن ثم الحصول على قرار إنشاء صندوق إعادة إعمار للشمال السوري، وهذا لن توافق عليه أمريكا؛ لأن تركيا يستحيل أن تسمح لأمريكا بالدخول في إعادة إعمار شمال سوريا من حدودها بينما ترقد أمريكا في أحضان الـpkk، وترفض تسليم فتح الله غولن، مما سيضطر روسيا لشن حرب إعلامية وسياسية لتركيع أمريكا، أملاً في موافقتها على تلك القرارات، في مقابل حصة من إعادة الإعمار بالإضافة إلى البترول السوري الذي استأثرت به أمريكا وحدها!!
أو ستتخلى أمريكا عن الـpkk وفتح الله غولن في مقابل الجلوس في أحضان تركيا وحماية مصالحها الاقتصادية في المنطقة، لتتحول الحرب الأمريكية من حرب عسكرية ضد تركيا إلى حرب سياسية ضد روسيا بعد أن خسرت الحليف التركي!!
لتبقى تركيا في النهاية في صورة المتفرج على الديكين أو الثورين الروسي والأمريكي وهما مختلفان!!
مما يعيد الصراع مرة أخرى إلى صراع أمريكي روسي، وسيجعل المواجهة العسكرية مع تركيا ليست ذات تأثير جوهري في معادلة الصراع الأكبر، وبالتالي ستبقى تركيا خارج حلبة الصراع بين الكبار!!
7- أصبح العالم قرية صغيرة من الناحية الإعلامية، وأعداد المهجرين السوريين حول العالم بالملايين، سواء مهجري مجازر الثمانينات، أم مهجري اليوم، ويضاف إليهم ملايين الفلسطينيين الذين هم أقل من السوريين عدداً، لكنهم أقوى منهم تأثيراً، فما هو تأثير إشعال حرب في مثل هذا الوقت على الرأي العام العالمي؛ فهذا ربما يؤدي لدخولهم في الإسلام، أو انتفاضهم ضد حكوماتهم، أو ضد أمريكا على أقل تقدير!!
وإلى حين أن تحدد أمريكا قرار الحرب من عدمه في المنطقة، فستبقى تلعب لعبة السياسة والإعلام؛ لتسرق القلوب وتغسل العقول، وتحصد الثمار على الأرض. فيوماً ترفض قتال تركيا لمنظمة الـpkk، ومرة تدعي أنها أنشأت قاعدة عسكرية في منبج لمنع تمدد منطقة درع الفرات إلى منبج، ومرة تدعي أنها العلاقات مع تركيا أهم من غيرها، ومرة تقول: إن الـPYD مختلف عن الـPKK، مع أن الشعب الكردي السوري متضجر جداً من تواجد عناصر جبال قنديل ودخولهم البيوت لأخذ النساء للمشاركة في المعارك!!
وستبقى السياسة الأمريكية مشوشة وفوضوية إلى حين الانتهاء من بناء استراتيجية جديدة جديدة بعد فشل استراتيجية الانقلاب!!
وهنا يبرز السؤال الأبرز، والذي أردده دائماً:
ما هو دورنا وموقعنا نحن السوريين ضمن ألعاب الكبار؟!!
وفي ظل انعدام صوتنا الدولي، فهل سنتوحد لتكون لنا كلمة محترمة ومُصانة على شعوبنا على أقل تقدير؟!!
ومتى سنفهم أن السياسة الدولية هي علم يجب علينا إتقانه، وأن مواجهة كل العالم دفعة واحدة شيء لم يأمر به شرع ولا عقل، بل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على خلاف هذه السياسة وعلى بطلانها؟!!
وهل سنفهم أن خبراتنا السياسية صفر، فنتواضع؛ لنتعلم من غيرنا، وليُعَلِّمنا الله؟!!
إبراهيم سلقيني – ترك برس