تمتاز العلاقات التركية الروسية بأنها مستقرة ومفيدة للبلدين جدا، بحيث لا تستطيع إحداهما الاستغناء عن الأخرى في مجالات عديدة في مقدمتها أمن المنطقة السياسي، وسوق الطاقة والزراعة والسياحية والصناعة وغيرها، فهذا السوق التجاري ليس أمرا سهلا بين البلدين بل يكاد يكون شريان حياة للشعب التركي والروسي، فتركيا تصل حاجتها إلى النفط والغاز الروسي نسبة 70ـ90% من استهلاكها السنوي، وهذه حاجة لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة، ومستوى التبادل التجاري اليوم يصل نحو 30مليار، يتم العمل حاليا أن يصل إلى 100مليار في السنوات القليلة القادمة، فقيادة تركيا وروسيا مضطرتان إلى زيادة أوجه التعاون والحد من نقاط الاختلاف بينهما إرضاء لشعوبهما، وإلا خسر كل واحد منهما شعبيته في الانتخابات أيضا.
لذا كانت حالة الاختلاف بينهما في السنة الماضية نقطة عابرة لا يمكن أن تبقى ولا أن تتوسع، وأن يتم معالجة الاختلاف بأسرع ما يمكن، والبحث عن جوانب الاختلاف وأسبابه، وهذا ما يفسر حرص الرئيسين الروسي بوتين والتركي أردوغان بعقد ثلاثة اجتماعات قمة بينهما خلال الأشهر الماضية لمعالجة ما حصل، ووضع أسس جديدة للعلاقة بين البلدين.
ومن المعلوم أن المسألة السورية هي نقطة الاختلاف الأساسية بين تركيا وروسيا في السنوات الماضية، وقد تفاقمت حتى تجاهل الروس التحذيرات التركية بعدم انتهاك المجال الجوي التركي في العمليات العدوانية التي تشنها روسيا على سوريا، الذي أدى إلى إسقاط الطائرة الروسية سوخوي24 بتاريخ 24 نوفمبر 2015، وما أعقبها من تصعيد متبادل بين الدولتين، وحيث إن الطرف الأساسي الذي يتم عليه الاختلاف هو نظام الأسد، فإن تفهم روسيا لوجهة النظر التركية سوف تؤدي حتما لزيادة التعاون بينهما، وسوف تنهي الأزمة السورية بطريقة ترضي الشعب السوري والدولة الروسية وتركيا.
ولكن القيادة الروسية في السابق رجحت الأخذ بالرؤية الإيرانية أولا، وخدعها التشجيع الأمريكي للتورط العسكري في سوريا ثانيا، وخدع الجنرال الإيراني قاسم سليماني قيادة الأركان الروسية وبوتين بأن عملية عسكرية روسية سريعة وخلال ثلاث أو أربع أشهر سوف تقضي على المعارضة السورية المسلحة كليا.
ولا شك أن روسيا لها مصالحها في تجربة هذه المحاولة، ولكن فشل المحاولة بعد أكثر من سنة فرض على روسيا أن تعيد النظر ليس في العملية العسكرية في سوريا فقط، وإنما أن تعيد النظر في حلفائها في المنطقة بما فيها إيران، فبوتين لا يحتمل الخسارة العسكرية أولا، ومجرد بقاء روسيا في حرب متواصلة في سوريا سوف يعني خسارة بوتين سياسيا وعسكريا، ولذلك فهو يتحايل على بقاء وجود قوات روسية في سوريا بحجج القواعد العسكرية الدائمة، لإظهار الهزيمة انتصارا، ولكنه في الحقيقة يبحث عن حلول تخرجه من سوريا غير مهزوم، وإن لم ينتصر، وحيث إن إيران لا تستطيع مساعدته في ذلك، فإن بوتين اضطر إلى مصالحة أردوغان، وإعادة علاقة روسيا مع تركيا إلى أحسن مما كانت، لأن تركيا وحدها هي التي تملك إنقاذ روسيا أو حفظ ماء وجهها في سوريا على الأقل، وإلا تواصلت الخسارة عليها خارجيا وداخليا.
وفي المقابل فإن تركيا تنظر إلى المعادلات العسكرية في سوريا بواقعية حقيقية، وليس إلى مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية فقط، كما يظن البعض، فتركيا ولا كل الدول العربية معها لا تستطيع الدخول في حرب مع روسيا عسكريا، فتوازن القوى العسكرية متفاوتة جدا، بالرغم من أنه ليس مطلبا تركيا ولا عربيا ولا إسلاميا الدخول في حرب عالمية مع روسيا الاتحادية، لأن ذلك خسارة محققة للمسلمين والأتراك والعرب في هذه الظروف العسكرية، فضلا عن أنه مدعاة لسرور الغرب وأمريكا وإسرائيل، ولذلك فإن زيادة التوتر مع روسيا في سوريا ليس مصلحة تركية ولا عربية ولا إسلامية، وبالتالي فإن الحكمة السياسية تتطلب دفع الشر الروسي عن سوريا في أقرب وقت ممكن، لأن روسيا لن تنقلب في مواقفها بين عشية وضحاها، وبالتالي فإن إقناع روسيا بالعدول عن مواقفها الخاطئة والإجرامية في سوريا خير من الدخول معها في صراع سياسي أو عسكري، وهو ما حاولت السعودية وقطر والبحرين والأردن والكويت وغيرها سلوكه مع روسيا في السنوات القليلة الماضية، بالرغم من موقف روسيا في دعم نظام الأسد، لأن الحل الآخر غير ممكن أيضا، بل ضربا من الانتحار.
على أساس هذه الرؤية توجهت السياسة التركية إلى إقناع روسيا بخطأ موقفها العسكري في سوريا، وإلى تخطيء المحور الذي شاركت فيه روسيا إيران والعراق ونظام الأسد، لأنه محور عقيم أولا، فلا يمكن أن يحقق النجاح إطلاقا، لأنه ضد هوية أهل المنطقة الحضاري، وضد مصالحها، وهو محور حاقد وإجرامي، فلا مصلحة لروسيا أن تكون في محور عدائي ضد المسلمين وخمس سكانها من المسلمين، وإيران مهما قاتلت في سوريا لن تنتصر ولو بعد عقود، وهي تحارب في سوريا لأحقاد تاريخية وخدع أمريكية، فأمريكا هي التي شجعت إيران لاحتلال العراق معها، وشجعتها لاحتلال سوريا واليمن، لأن أمريكا تخطط للحروب الدائمة في العالم الإسلامي. وهذا يعني أن محور إيران هو أقرب إلى أمريكا من قربه إلى روسيا، فلا مصلحة لروسيا أن تبقي تحالفها مع إيران بديلا عن تحالفها مع تركيا والدول العربية والإسلامية.
ولذلك، فإن تغير المواقف الروسية من تركيا والسعي للمصالحة معها، وتقديم إغراءات المصالحة لتركيا مثل توقيع خط السيل التركي، وزيادة التعاون الاقتصادي هو دليل على تخلل التحالف الروسي الإيراني، بل بلغ التفاهم التركي الروسي حد التعاون في المجالات العسكرية التصنيعية والتكنولوجية، بل وصل حد الإغراء الروسي أطماع تركيا أن تصبح دولة نووية، لإنتاج الطاقة النووية السلمية، وهو ما تم توقيع الاتفاقيات بشأنه في هذه الزيارة.
هذا التخلخل في التحالف الإيراني الروسي يمكن قراءته من جملة الاتفاقيات التي وقعت في زيارة بوتين إلى إسطنبول يوم 10 أكتوبر 2016 بمناسبة انعقاد المؤتمر الدولي 23 للطاقة، فحجم الاتفاقيات الموقعة بين البلدين مؤشر على تحالف تركي روسي جديد، وما يؤكد امتعاض إيران من هذا التحول الروسي نحو تركيا هو تغيب الحكومة الإيرانية وربيبتها الحكومة العراقية عن المؤتمر، علما بأنه مؤتمر دولي، وسوف يواصل المؤتمر في عقد اجتماعات وزارية لمنظمة أوبك وأوابك المنتجة للنفط، ولكن إيران آثرت الغياب على أن تكون شاهدة على خسارتها لتحالفاتها الخبيثة في المنطقة، فلم تجن إلا المجازر في بلاد المسلمين والخسارة الاقتصادية والبشرية لشعبها، ولعل في محاولة روسيا تغيير سياستها في المنطقة وبالأخص نحو تركيا مؤشر على قرب تغيير في المشهد السوري المأساوي، فروسيا ليست مضطرة لتغيير سلوكها الإجرامي في سوريا إرضاء لتركيا فقط، وإنما بسبب شجاعة الشعب السوري الذي قاوم الاحتلال الإيراني وحارب الاحتلال الروسي، فجعل روسيا أمام الهزيمة التي سبقته إليها إيران، ولذلك فإن مواصلة مقاومة الشعب السوري في مقاومة الاحتلال الإيراني والروسي سيكون العامل القوي والحاسم بيد الحكومة التركية لإقناع روسيا بأنها دخلت طريقا مسدودا، وعليها التراجع عنه، بل والعمل لمصالحة الشعب السوري، والتخلي عن الزعامة القاتلة والفاشلة، فالشعوب أبقى من الرؤساء الدكتاتوريين والسفاحين.
زاهد غول_عربي21