كان من المتوقع والمفهوم سياسياً أن تسارع روسيا إلى التقارب بشكل أكبر مع تركيا فور تصاعد الخلافات بين أنقرة وواشنطن، لكن المفاجئ وغير المتوقع هو مبادرة أوروبا إلى مخالفة التوجه الأمريكي ضد تركيا ومسارعة كبرى دول الاتحاد إلى تعزيز العلاقات مع تركيا رغم الخلافات الكبيرة والمتصاعدة بين أنقرة وبروكسل طوال السنوات الماضية.
وبعد أن كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يركز كل خططه نحو تعزيز العلاقات بشكل أكبر مع روسيا والتوجه أكثر نحو الصين وإيران وباكستان والتوسع تجارياً في آسيا وافريقيا لمواجهة الآثار السياسية والاقتصادية للأزمة مع أمريكا، تلقف التضامن الأوروبي مع بلاده بشكل سريع ووضع نصب عينيه استراتيجية جديدة في محاولة لطي الخلافات مع دول الاتحاد وفتح صفحة جديدة من التعاون.
ومع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقوبات اقتصادية على تركيا ودخول الاقتصاد التركي في مشاكل كبيرة تمثلت في تراجع تاريخي بسعر صرف الليرة التركية أمام الدولار، سارعت فرنسا وألمانيا أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي إلى تأكيد وقوفهما إلى جانب تركيا وأعلنا مرحلة جديد من تعزيز التعاون والعلاقات الاقتصادية مع أنقرة وذلك من خلال اتصالات هاتفية جرت بين أردوغان ووزير ماليته من جهة، وأنغيلا ميركل وإيمانويل ماكرون ووزيري ماليتهما من جهة أخرى.
وفي إجراءات متلاحقة لا تبدو عفوية أو مصادفة على الإطلاق، قرر القضاء التركي الإفراج عن جنديين يونانيين كانا محتجزين في تركيا بتهم تتعلق بالتجسس واجتياز الحدود، قبل أن يتم الإفراج عن رئيس منظمة العفو الدولية في تركيا، ورفع حظر السفر عن صحافية ألمانية، وهي جميعها قضايا كانت أحد أسباب الخلافات الأخيرة بين تركيا والاتحاد الأوروبي.
على الجانب التركي، هناك إجماع على تبني خطاب يفصل بين الخلاف مع الغرب بشكل عام والخلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى ضرورة عدم الخلط بين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، أي أن الجانب التركي تدارك الأمر بسرعة وبدأ بتبني سياسة عامة تتعلق بحصر الخلاف مع أمريكا دون معاداة «الغرب» بشكل عام أو حلف شمال الأطلسي «الناتو».
وفي المقابل، لا يرى الاتحاد الأوروبي من مصلحته أبداً أن تشهد تركيا أزمة اقتصادية تنعكس على الاتحاد في كافة المجلات، حيث يخشى أن تؤدي أزمة اقتصادية في تركيا إلى هز الاستقرار السياسي فيها الأمر الذي يمكن ان يتصاعد على شكل انعدام للاستقرار الأمني يقود تركيا لأن تصبح دولة فاشلة تعاني من تراجع الاستقرار السياسي والأمني، في سيناريو يراه مراقبون «مرعباً» لأوروبا التي تعتبر تركيا حائط الصد الأول عنها أمام مناطق النزاع في العالم العربي لا سيما في سوريا والعراق.
ويعطي الاتحاد الأوروبي أولوية لمنع تحول تركيا إلى دولة ضعيفة أو فاشلة على الصعيد الداخلي ما يعني فقدان الاستقرار الأمني وخطر انتقال الإرهاب من مناطق النزاع بسوريا والعراق إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، إلى جانب انفجار أزمات غير مسبوقة كأزمة لاجئين نحو الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الاثار الاقتصادية الكبيرة التي ستلحق بالأسواق الأوروبية في حال تعمق الأزمة الاقتصادية بتركيا.
وفي مقال له بصحيفة «بوسطا» تحت عنوان «بروكسل أم واشنطن أيهما شريك استراتيجي لأنقرة»، اعتبر الكاتب التركي هاكان جليك أن مصطلح الشراكة الاستراتيجية المستخدم لتعريف العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا أصابه وهن وانهاك شديدين، معتبراً أنه من غير الممكن إطلاق تسمية الشريك الاستراتيجي على بلد قدم كل أشكال الدعم لجميع التنظيمات الإرهابية المعادية لتركيا ومنها غولن و«بي كا كا» والوحدات الكردية في شمالي سوريا.
ويقول الكاتب: «على الرغم من جميع الخلافات والاختلاف في وجهات النظر اتخذ الاتحاد الأوروبي وروسيا موقفًا أقرب إلى هذا التعريف (الشريك الاستراتيجي)، عندما يتعلق الأمر بتركيا»، وبعد أن عدد الكاتب حجم الاستثمارات الأوروبية في تركيا والتعاون الاقتصادي القائم بين البلدين ختم مقاله بعبارة «برأيي هذه هي الشراكة الاستراتيجية الحقيقية»، ويقصد هنا الاتحاد الأوروبي.
وعلى الجانب الآخر، كثف المسؤولين الاتراك لقاءاتهم مع نظرائهم الروس منذ تصاعد الأزمة مع واشنطن، وجرت سلسلة لقاءات واتصالات بين اردوغان وبوتين، وجاوش أوغلو ولافروف، وتواصلت لتشمل وزيري دفاع ورئيسي استخبارات البلدين، حيث أعلن البلدين نيتهما تعزيز العلاقات بينهما في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
وقال بوتين، الجمعة: «علاقتنا مع تركيا تزداد عمقًا وثراءً بمضامين جديدة، والتعاون بيننا يتطور في القضايا الإقليمية والاقتصادية»، في حين أكدت مصادر عسكرية روسية تسليم تركيا منظومة صواريخ أي 400 الدفاعية بداية عام 2019 وهي الصفقة التي تعتبر أحد أبرز ملفات الخلاف بين أنقرة وواشنطن.
وبينما تحاول تركيا اللعب على وتر الابتعاد عن أمريكا للحصول على مزيد من التعاون والدعم من موسكو، تعلم أنقرة جيداً الأسباب التي تجعل من الاتحاد الأوروبي يقف إلى جانبها، وفي مقابل تركيزها على تعزيز العلاقات بالتوازي بين موسكو وبروكسل، لا يعرف أحد حتى الآن مدى قدرتها على الاستمرار والنجاح في هذه السياسية المعقدة.