لم يكن التصريح الذي أدلى به الناطق باسم الرئاسة التركية ليمر دون التقاط أبعاده الخطيرة، فالرجل يحذر من أن تمضي ليبيا بشكل تدريجي إلى السيناريو السوري، إلى الفوضى ورهن الحل بإرادات أجنبية متناقضة.
والحقيقة أن هذا التصريح لم يكن له محل قبل أسابيع، وإنما حمل في الواقع توصيفا لطبيعة تحركات الفاعلين الدوليين غداة تصميم تركي ليبي على استكمال التقدم العسكري في محور شرت الجفرة وضم الهلال النفطي لسيطرة حكومة الوفاق
أي جديد حصل بعد مبادرة السيسي التي لم يلتفت إليها أحد والتي كانت في الواقع مجرد رجع صدى لأفكار فرنسية أرادت أن تختبر أشياء كثيرة بدفع السيسي لهذه المبادرة؟
تختبرمصداقية مصر كطرف وسيط، وتختبر إمكانية أن تنجح الأفكار الفرنسية بدور فرنسي غير مباشر، أي بوساطة طرف جزء من المنطقة وله حدود ترابية معها، وفي الوقت ذاته معرفة الاستعدادات والعوائق التي تطرحها هذه الأفكار لتهيئ شروط فعل فرنسي ضاغط أكثر فاعلية.
حكومة الوفاق مع حلفيها التركي كسبت كثيرا ميدانيا، وضمت حتى المناطق التي كان المحور الفرنسي المصري الإماراتي يعتبرها خطوط حمر (قاعدة الوطية وترهونة)، بل حققت أكبر هدف استراتيجي لها، وذلك منذ انطلاق الأزمة الليبية، إذ لم تكتف بدحر الجنرال المتقاعد حفتر، بل ألجأت الدول الداعمة والممولة له، إلى التخلي عنه والتفكير في أوراق اعتماد جديدة.
لكن مع ذلك، لا شيء محسوما إلى اليوم، فما خسر في الحرب، تلعب الدبلوماسية الفرنسية على محاولة استرجاعه، بينما تحاول روسيا من جهتها بحث منافذ أكثر قوة لتوطيد نفوذها في المنطقة.
فقد عملت فرنسا على التحرك على نطاق واسع في المنطقة منذ انطلاق العمليات العسكرية الواسعة ووصولها إلى حدود ترهونة، واستهدافها لقاعدة الوطية، ودخلت دول الاتحاد المغاربي في دائرة الضغط والمقايضة، فتغير الموقف التونسي سريعا، فأدلى الرئيس التونسي بتصريح غريب يتحدث فيه عن دور للقبائل في مستقبل ليبيا، ثم تغير بعده موقف الجزائر التي تفاوض هذه الأيام فرنسا على الذاكرة وجرائم فرنسا عند احتلال الجزائر، فصرح عبد المجيد تبون بأن الحكومة الحالية في ليبيا تجاوزتها الأمور، مشددا على ضرورة الوصول إلى قيادة جديدة في ليبيا، لتظهر خلفيات هذا التحول بإعلان فرنسا عن موقفها بشكل رسمي، وحديثها عن دور للقبائل في رسم الحل السياسي في ليبيا، أما المغرب فقد بقي ثابتا على موقفه الذي يحيل على مرجعية الصخيرات وكونه يشكل أرضية الحل السياسي للمشكل الليبي.
والواقع أن هذا التطور الجديد، يعكس في الجوهر تغيرا سريعا في تكتيك المحور الفرنسي المصري الإماراتي، لجهة التخلي عن ورقة الجنرال حفتر، وتعويض هذه الورقة بورقة القبائل، وذلك بعد أن كشفت وقائع الأرض بداية تحلل القبائل من محور حفتر ونسج بعضها لتحالفات جديدة مع حكومة التحالف، أي أن فرنسا أرادت بخبرتها الانثروبولوجية أن تسارع الخطى بحماية الوضع القبلي الممانع لحكومة الوفاق قبل أن تحصل تغيرات كبيرة فيه، يجعلها تفقد قدرتها على تعجيل الاتجاه من زاوية السياسة قبل أن تبحث عن خيارات من زاوية الحرب.
روسيا، بقيت بدون سند سياسي يمكن أن تعتمد عليه لتبرير وجودها ونفوذها في المنطقة، فراحت تحاول إحياء ورقة حفتر بعد أن تخلى عنها المحور الفرنسي المصري الإماراتي، كما وضعت جزءا كبيرا من الرهان على تعديل نقاط مهمة في الحرب، يساعدها على تبرير موقعها وتقويته.
الخطير في الموقف اليوم هو هذا التقاطب، وما يرافقه من أجواء الحشد التي تتورط فيه مصر، فتصير ليبيا محطة لاستقبال المرتزقة الأجانب من كل جهة، وسط حذر من لدن الجميع من التوغل في الخيار العسكري
ثمة اليوم في ليبيا ثلاث خطوط رئيسية، خط حكومة الوفاق المدعوم تركيا، والذي يمتلك شرعية أممية ودولية، ويتحرك من وحي استعادة هذه الشرعية، وخط المحور الفرنسي المصري الإمارتي، الذي فقد ورقة حفتر ويريد اللعب بورقة القبائل من خلال الاعتماد على دور مصري في المنطقة، وتمويل إماراتي، وتغطية بموقف مغاربي يضمنه الحراك الدبلوماسي الفرنسي، وخط روسيا، التي لا تملك سوى إحياء ورقة حفتر والرهان بشكل أكبر على المرتزقة وعلى تغيير في واقع الأرض لتبرير نفوذها وتطلعاتها الاستراتيجية في المنطقة.
على الواجهة الميدانية، سجل مؤشران كبيران، أولهما الهجوم المجهول بالطائرات على قاعدة الوطية، والثاني هو المناورة الضخمة التي تنوي البحرية التركية إجراءها قبالة السواحل الليبية بأسماء تحمل رموز عثمانية لها إيحاءات سيمائية رمزية لا تخطئها العين.
هجوم الوطية معناه أن الخطوط المقابلة لخط حكومة الوفاق المدعومة تركيا، أصبحت تؤمن بأن مرحلة المفاوضات قد اقتربت، وأنه لا بد من تحرك عسكري قوي وسريع يضعف حكومة الوفاق، حتى لا تدخل المفاوضات وهي على خط سرت الجفرة، وإنما تدخلها وقد فقدت جزءا من قاعدة الوطية، وأما المناورة العسكرية التركية الضخمة، فمعناه، أن اللعب مع تركيا لإخراجها من شرق المتوسط، أصبح مجرد خرافة أو حكاية للتسلية.
والحقيقة أن خطوات فرنسا لم يكن لها صدى على واقع الأرض، إذ استمرت تركيا في تحركاتها وزيارات كبار مسؤوليها لطرابلس بما في ذلك وزير دفاعها، بل فعلت هي الأخرى دبلوماسيتها المضادة، وتبنت مع حليفها (حكومة الوفاق) سياسة، المزاوجة بين البندقية وغصن الزيتون، معتبرة أن المشكلة في الأطراف الأخرى التي دعمت حفتر وهي اليوم تستعين بمرتزقة للتحلل من الاتفاقات الدولية. أمريكا التي تبدو سلبية لا تتحرك في الملف الليبي، ترى الأمور تسير على ما تشتهي، فقد وصلت الأطراف إلى عقدة المنشار، فهي تدرك أن الاتحاد الأوروبي لن يتحمل أن يأتي اختلال الاستقرار من بوابة ليبيا، وتدرك أن أوراق روسيا السياسية للتمكين لنفوذها في ليبيا محدودة، سوى ما كان من رهان على المرتزقة والتدخل العسكري الجوي، وتدرك أن هوامش فرنسا للتحرك محدودة، بسبب ضعف الموقف المصري ومحدودية التمويل الإماراتي، وصعوبة اللعب بورقة القبائل، ولذلك، هي لحد الآن تختار اللعب بجانب تركيا حتى يستبين لها الخيط ألبيض من الأسود. الخطير في الموقف اليوم هو هذا التقاطب، وما يرافقه من أجواء الحشد التي تتورط فيه مصر، فتصير ليبيا محطة لاستقبال المرتزقة الأجانب من كل جهة، وسط حذر من لدن الجميع من التوغل في الخيار العسكري، ودعوة لوقف إطلاق النار ودعوة للأمم المتحدة لتحمل مسؤوليتها في دعوة الأطراف المصارعة للحوار.
نقلا عن القدس العربي