قد يبدو هذا السؤال مجحفاً بحق الثورة السورية، ومتجنياً عليها. وبالنسبة لكثيرين تبدو الثورة ناصعة البياض، ولا يعيبها أن يُرتكب، بين الفينة والأخرى، تصرفٌ مقلقٌ أو خاطئ. كلما تكرّرت حوادث كهذه، وما أكثرها، يتدفق شلال التبريرات والأعذار لهذه التصرفات “الفردية” والتصريحات بأن مرتكبيها لا يعبرون عن الثورة، ولا يمثلون سوى أنفسهم.
لا تتعلق إشكالية هذه المسألة بهؤلاء الأفراد تحديداً، بل بتجاهل تعريف “الانتماء إلى الثورة السورية” أصلاً. لا معايير واضحة، أو جهة واضحة، تحكم هذا الانتماء، بل ليس من وضوحٍ على الإطلاق في هذا الصدد.
الوحيد الثابت الواضح في هذه المعادلة هو انعدام الوضوح، وعدم وجود مقياسٍ، أياً كان، يجعل من هذا الفصيل أو ذاك مرتبطاً بالثورة أصلاً. على سبيل المثال، يدور في دهاليز الإعلام والشبكات الاجتماعية والمجتمعية نقاشٌ طويلٌ، محتدم منذ ثلاث سنوات، عن دور جبهة النصرة في الثورة السورية، على الرغم من أنها (أي جبهة النصرة) لم تدّع يوماً أنها مع “ثورة الشعب السوري”، ولم تعلن في أي وقت أن هدفها هو “نصرة الثورة السورية”.
ينطبق هذا المثال على عشراتٍ أخرى من المجموعات والكتائب التي لا نذكر بالضبط متى ظهرت أو اختفت.
لذا، يحق لنا أن نتساءل: كيف يمكن أن نعتبر تصرفاً معيناً “خطأ فردياً”، إذا لم يكن هناك مقياسٌ يعرف “الصحيح” أصلاً؟
وكيف يمكن أن نعتبر تصرف أحد أفراد الجماعات خطأ “لا يعبر عن الثورة”، إذا كان خطاب الجماعات المسلحة كلها بالأصل لا يتبنى أي مقياس موحّد في تعريف “ما يعبّر عن الثورة”؟
المشكلة هنا مبدئية أكثر منها تفصيلية، فالفصائل والكتائب المسلحة التي تعتبر نفسها “معارضة”، أو التي يراها بعض السوريين “ثوريةً” لم تتفق على أي ميثاقٍ أو رؤيةٍ أو هدفٍ موحدٍ تحت راية الثورة فيما بينها، ما يجعل التنصل من “أخلاق الثورة” سهلاً في أي وقت.
جدير بالذكر أن أهداف الثورة الأصيلة في سورية انطلقت من النضال في سبيل “دولة مدنية ديمقراطية تعددية”، ولم تكن مقتصرةً على إطاحة بشار الأسد فقط. ذلك ليس تاريخاً غابراً، بل هي عبارات البيان الأول الذي أطلقه عام 2011 “المجلس الوطني السوري”.
من يمثل الثورة السورية إذاً؟
ومن يفرض مقاييسها وأخلاقها، ومن يمثل الشعارات التي رفعها المتظاهرون في بداية الانتفاضة في سورية؟
هل الثورة مفهوم نسبي يتغير بتغير موازين القوى؛ يفرضه من يمتلك السلاح الأكبر والعدة العسكرية الأضخم والامتداد الجغرافي الأوسع؟
إذا كانت هذه هي الحال، فما المانع أن تفصل هذه “المقاييس الثورية” على “داعش” التي لا ينقصها شيء من ذلك؟
لا يكون الحكم على الخطأ الفردي ممكناً قبل أن يكون ثمة توافق “جماعي” على مفهوم الثورة في الأصل، وإعلان صريح عن تبني هذه الثورة أو عدمه.
لا يكون الحكم على الخطأ الفردي ممكناً قبل أن يكون ثمة توافق “جماعي” على مفهوم الثورة في الأصل، وإعلان صريح عن تبني هذه الثورة أو عدمه.
لماذا تم تجاوز هذه البديهية سنواتٍ متوالية؟
ولماذا تم تغييب مفهوم “الثورة” لحساب مفهوم “المعارضة”؟
لماذا تم تسفيه كل المحاولات وتهميشها لضبط هذه الفوضى، منذ أيام وثائق القاهرة 2012 في مقابل نظرية الائتلاف المعارض عن “التحالف مع الشيطان ضد الأسد”؟
هل السبب أن تحديد الفصائل “الثورية” أصبح يُملى إعلامياً؟
أم أن “الثورية” منذ ذلك الوقت غدت تفرض بقوة السلاح؟
وفي وقتٍ تبدو الثورة السورية يتيمةً لا يمثلها سوى الشعب السوري المغلوب على أمره، فإن هذا الشعب المتبقي في الداخل، ممن لم يسقط بعد، لم يعد مفهوم الثورة “الأصيل” مرتبطاً به، منذ تم تمييع المصطلح، وربطه بفوضى المعارضة المتناحرة والسلاح المنفلت والسياسة البراغماتية والمصالح المتناقضة. وإذا كان هذا الشعب، وهو الممثل الشرعي المتبقي لهذه الثورة، لا يسلم من تصعيد جميع الأطراف بحقه، إلى حد يصل إلى الاستهداف، فلا عتب ولا لوم على تخاذل المجتمع الدولي عن نصرة “الثورة”. نحن السوريون من خذلها أولاً.
وفي وقتٍ تبدو الثورة السورية يتيمةً لا يمثلها سوى الشعب السوري المغلوب على أمره، فإن هذا الشعب المتبقي في الداخل، ممن لم يسقط بعد، لم يعد مفهوم الثورة “الأصيل” مرتبطاً به، منذ تم تمييع المصطلح، وربطه بفوضى المعارضة المتناحرة والسلاح المنفلت والسياسة البراغماتية والمصالح المتناقضة. وإذا كان هذا الشعب، وهو الممثل الشرعي المتبقي لهذه الثورة، لا يسلم من تصعيد جميع الأطراف بحقه، إلى حد يصل إلى الاستهداف، فلا عتب ولا لوم على تخاذل المجتمع الدولي عن نصرة “الثورة”. نحن السوريون من خذلها أولاً.
العربي الجديد – لورين محمد