على الرغم من سريان هدنة “اللحظة الأخيرة” في سورية، أو “وقف الأعمال العدائية”، فترة قاربت الأسبوع، إلا أن نظام الأسد اخترقها مرات عديدة، منذ دخولها حيّز التنفيذ، ولم يسمح بدخول قوافل المساعدات الإنسانية إلى الأحياء الشرقية في مدينة حلب، وفي المناطق المحاصرة الأخرى، مع العلم أن الاتفاق الروسي الأميركي طالب جميع الأطراف السورية بتسهيل وصول هذه المساعدات، فور بدء الهدنة التي إذا كانت قد نجحت نسبياً في إحداث تهدئةٍ عسكرية ميدانية، أدت إلى خفض العنف، وتقليل أعداد الضحايا السوريين، إلا أنها لم تؤسّس لمسار سياسي، خصوصاً وأنها لم تصمد طويلاً، لكي تؤسّس لمفاوضات سياسية، تؤدي إلى وضع القضية السورية على مسار التهدئة أولًا، ثم البحث في انتقال سياسي ثانياً، يوصل إلى حلّ سياسي منشود، يُنصف السوريين، وهو ما لا يبدو في متناول اليد، وغير واضحة ممكنات الوصول إليه، على الرغم من حديث الوزيرين، الأميركي جون كيري، والروسي سيرغي لافروف، عن مثل هذا الحل، بعد التوصل إلى اتفاقٍ بينهما في التاسع من سبتمبر/ أيلول الجاري.
وعلى الرغم من أن من المفترض ضمان وصول المساعدات الإنسانية والطبية إلى المدنيين كافة في مناطق الحروب والنزاعات المسلحة، حسب المواثيق والأعراف الدولية، إلا أن النظام الأسدي أراد أن يستخدمها وسيلة ابتزاز، تتسق مع استخدامه سلاح التجويع والحصار ضد كل المناطق الخارجة عن سيطرته، بما يرقى إلى جرائم حرب وضد الإنسانية.
وقد خوّل قرارا مجلس الأمن 2156 و2245 الأمم المتحدة بإدخال المساعدات الإنسانية إلى كل المناطق السورية المحاصرة، من دون أخذ إذنٍ أو موافقةٍ من النظام الأسدي. لكن، وبدلاً من تفعيل القرارات الأممية، رأينا المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، يستجدي موافقة النظام وإعطاءه تصاريح مرور قوافل المساعدات، ما يعني تخويله حق الوصاية على دخولها، ما يناقض القرارات الأممية، ويناقض ما أعلنه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الذي طالبت إدارته روسيا بالالتزام ببنود الاتفاق بينهما، والضغط على نظام الأسد لإدخال المساعدات إلى حلب. لكن، بدلاً من ذلك، سجل النظام وحليفه الروسي سابقةً خطيرةً في قصفهم قافلة مساعدة إنسانية في قرية أورم الكبرى، في انتهاكٍ سافر لكل الاتفاقيات الدولية، وارتكابٍ واضح لجريمة حرب نكراء، تستوجب إحالة المتورطين فيها إلى محكمة الجنايات الدولية.
“اكتفى الطرفان، الروسي والأميركي، بالتعهد في ممارسة الضغط على “حلفائهما” لإنجاح الهدنة، لكنهما لم يحدّدا آلياتٍ جدية، من شأنها إنجاح العملية”
ولعل من أهم حيثيات فشل الاتفاق الروسي الأميركي أنه لم يبن على تصورٍ سياسي، يهدف إلى إنهاء معاناة السوريين، إضافة إلى اختلاف مراد كلا الطرفين وأهدافهما من الاتفاق، فالطرف الأميركي أراد اتفاقاً في الحد الأدنى، لكي يقدمه الرئيس باراك أوباما للناخبين الأميركيين إنجازاً يساعد مرشحة حزبه الديمقراطي، هيلاري كلينتون، في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فيما أراد الساسة الروس أن يسترجعوا بعضاً من شرعية نظام الأسد المفقودة، وهم يخفون سعيهم الأساسي من الاتفاق، المتمثل في الوصول إلى شراكةٍ عسكريةٍ مع الأميركيين في الحرب ضد تنظيم داعش وجبهة فتح الشام (النصرة سابقا)، وشرعنة ذلك، بالحصول على قرار من مجلس الأمن الدولي. لذلك، هدّد المسؤولون الروس، في أكثر من مناسبة، بنشر بنود الاتفاق بوثائقه الخمس التي تحدّث عنها لافرورف، فيما أصر المسؤولون الأميركيون على عدم نشر هذه البنود، بحجة حساسية المعلومات فيها.
وبالفعل، يمنح المعلن من بنود الاتفاق، وخصوصاً الجانب العسكري منه، مشروعية لجيش الأسد وكل المليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية التي تقاتل دفاعاً عنه، من جهة تحديد مناطق قتالها، بل ويسعى الاتفاق إلى إشراك النظام فيما تسمى الحرب على الإرهاب، ويجعل من الروس شريكاً أساسياً في هذه الحرب. لذلك، طالب الاتفاق جميع الأطراف بوقف المعارك وعمليات القصف والغارات الجوية من النظام، مع منحه استثناءاتٍ في ذلك، واكتفى الطرفان، الروسي والأميركي، بالتعهد في ممارسة الضغط على “حلفائهما” لإنجاح الهدنة، لكنهما لم يحدّدا آلياتٍ جدية، من شأنها إنجاح العملية، واكتفيا بدعوة المعارضة والنظام إلى الإبلاغ عن أي انتهاكاتٍ قد تحدث، من دون وضع آليات مراقبة، أو إجراءات رادعة لقوات الأسد وحلفائه، في حال خرق الهدنة، الأمر الذي منح النظام حرية القيام بانتهاكاتٍ متكرّرة، من دون عقاب أو رادع، وبالنهاية انهار الاتفاق، وعاد الوضع إلى تصعيد عسكري جديد.
وإن كان الاتفاق الروسي الأميركي قد رفض انفصال جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة، فإنه سكت، في المقابل، عن وجود تنظيمات مصنفة إرهابية من الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، مثل حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني، التي تقاتل إلى جانب النظام السوري وحليفيه الروسي والإيراني ضد غالبية السوريين. وبالتالي، أفضى ذلك إلى تقوية نظام الأسد وحلفائه، في مقابل سعيه إلى شق صفوف المعارضة السورية، مع محاولة إضفاء شرعيّة على طرف، مع تجريم وافتراس طرف آخر، والأدهى محاولة طرفي الاتفاق إعادة تأهيل نظام الأسد، وتخلي الطرف الأميركي عن المطالبه برحيله، ما يعني تحويل القضية السورية المأساوية إلى مجرد قضية لاجئين ومساعدات إنسانية، وجعل ممكنات حلها تتجسّد في أولوية الحرب على الإرهاب.
وبالفعل، يظهر صراع القوى الإقليمية والدولية على الأرض السورية أن التفاهمات والاتفاقات التي عقدها الروس والأميركان مجرّد صفقات سياسية، لا تقتصر فيها القوى الفاعلة على الحفاظ على نفوذها في سورية فحسب، بل في إضفاء بعدٍ آخر للصراع، يتمثل في جعل عملية الانتقال السياسي أكثر صعوبةً وتعقيدًا. ولا تعني فظاعة المشهد الإنساني للقضية السورية وقساوته، بعد تجاوز عدد الضحايا ستمائة ألف قتيل، وتشريد أكثر من نصف السوريين داخل سورية وخارجها، وتدمير بنية البلاد، فضلاً عن جرائم التهجير والتغيير الديمغرافي على أساسٍ مذهبي. لا يعني ذلك كله في المعيارية الروسية، وربما الأميركية أيضاً، سوى ورقة للمزايدة والوصول إلى تفاهماتٍ وتوافقاتٍ، تناسب مصالح كل قوة كبرى وفاعلة في الملف السوري، الأمر الذي لن يؤسس مطلقاً لمسار سياسي تفاوضي، يمكنه أن ينقل البلاد إلى وضعٍ جديدٍ وأفضل، ومرد ذلك، في قدر كبير منه، إلى مسار التراجع والخذلان الأميركي الذي لخصه الاتفاق الروسي الأميركي حول سورية.
العربي الجديد