منذ عدة أعوام، قبل أن تصبح مظاهراتهم مصحوبة بالعنف، أمضى مجموعة من الشباب السوري الباحث عن طريقة للإطاحة ببشار الأسد أسبوعًا داخل منتجع ساحلي معزول خارج سوريا ليحضروا تدريبًا على الثورة.
المدربان كانا سرديا بوبوفيتش وسلوبودان دينوفيتش، قياديان في «أوتبور»، الحركة الطلابية الصربية التي كان لها دور فعال في إسقاط سلوبودان ميلوسوفيتش عام 2000.
بعد النجاح في صربيا، ساهم الاثنان في دعم التحركات الديمقراطية الناجحة في أوكرانيا وجورجيا، ليؤسسا لاحقًا «مركز خطط وإستراتيجيات اللاعنف»، ثم يسافران حول العالم، ليُدربا على طريقة «أوتبور» نشطاء الديمقراطية من 46 دولة مختلفة.
كانت بداية الصربيين مستمدة من أفكار الأكاديمية الأمريكية «جين شارب» عن حركات اللاعنف، لكنهم قاموا بتطويرها والإضافة إليها. في كتابه «دليل الثورات»، يتحدث «بوبوفيتش» عن إستراتيجيات اللاعنف وكيف يمكن للناس استخدامها.
طريقة «أوتبور» وشعارها (قبضة يد مضمومة) تم اعتمادهما من قبل الحركات الديمقراطية حول العالم. المعارضة المصرية استخدمتهما لتطيح بحسني مبارك. في لبنان ساعد الصرب ثورة الأرز في تخليص البلاد من النفوذ السوري. في المالديف، ساعدت طريقة «أوتبور» في إسقاط ديكتاتور كان في منصبه لأكثر من 30 عامًا. في دول أخرى كثيرة، استخدم الناس تدريبات مركز إستراتيجيات اللاعنف ليحققوا أهدافًا سياسية أخرى، مثل محاربة الفساد أو حماية البيئة.
قابلتُ بوبوفيتش ودينوفيتش في بلغراد منذ 5 أعوام، ثم مرة أخرى في مدينة آسيوية لأشهد بنفسي تدريبهم لمجموعة نشطاء من بورما.
لقد عشتُ تحت سيطرة ديكتاتوريتين، وشاهدت عددًا كبيرًا من حركات التحرر على مستوى العالم. لكن ما فعله الصرب كان جديدًا. «بوبوفيتش» ينسف كل ما كان يعتقده معظم الناس عن النضال اللاعنفي.
خرافة: اللاعنف مرادف للسلبية
لا، النضال اللاعنفي هو حملة إستراتيجية لإجبار المستبد على التخلي عن السلطة، من خلال تجريده من ركائز قوته.
خلال الساعات الأولى من الورشة السورية، أكد بعض المشاركين أن العنف هو الطريقة الوحيدة لإسقاط الأسد. كل الورش تبدأ هكذا تماما. ربما لأن البعض يعتقدون أن الصرب سيعلمونهم فقط كيف يمارسون الخطابات والتأملات السعيدة. بوبوفيتش يقول بصوت عالٍ ما يفكر فيه الجميع، «إذًا سنطلب ببساطة من الأسد أن يرحل؟ من فضلك، السيد الأسد هل يمكنك التوقف عن ممارسة الاستبداد؟»، يجيب بوبوفيتش، «ليس الأمر بهذا اللطف».
إنه على العكس تمامًا، يقول دينوفيتش: «إننا هنا لنخطط لحرب»، موضحًا: النضال اللاعنفي هو حرب، لكن وسيلته ليست استخدام السلاح، ويجب التخطيط له بعناية واهتمام تمامًا كالتخطيط لحملة عسكرية.
خلال الأيام القليلة القادمة، درَّب الصربُ الشباب السوريين على تكتيكاتهم التي طوَّروها للوصول إلى قوة أكبر، كيف تصل من حركة قوامها ملءُ شاحنة من البشر إلى حركة قوامها مئات الآلاف منهم؟ كيف تكسب إلى صفك المجموعات التي تقوي المستبد بدعمها؟ كيف يمكن أن تشنَّ حربك بأمان في وضع يكون فيه أي تجمّع مهدد بالسجن لفترات طويلة، التعذيب أو حتى القتل؟ كيف تكسر خوف الناس وتخرجهم إلى الشوارع؟
خرافة: أكثر الحركات اللاعنفية نجاحًا هي تلك التي تبدأ وتكبر بشكل عفوي
لن يترك أي جنرال حربًا عسكرية تُقاد بالصدفة، حرب اللاعنف ليست استثناء على الإطلاق.
خرافة: التكتيك الأهم لحرب اللاعنف هو حشد تجمعات كبيرة من الناس
هذا التصور منتشرٌ لأن المظاهرات الكبيرة تشبه تمامًا قمة الجبل الجليدي العائم على وجه المياه، إنها الشيء الوحيد الذي يظهر للسطح. هل يبدو أن إسقاط مبارك بدأ بمظاهرة عفوية تجمَّعت في ميدان التحرير؟ في الحقيقة كان احتلال المظاهرات لميدان التحرير مخططًا له بعناية كبيرة، وبعد جهد عامين كاملين. انتظرت المعارضة المصرية حتى امتلكت الأعداد الكافية. إذًا حشد ضخم من الناس ليس بداية حركة تحررية، إنه فقط خطوة على طريق النصر.
في الأنظمة شديدة الاستبداد، يصبح حشد الناس في المسيرات، الاحتجاجات أو المظاهرات خطرًا للغاية، حيث سيقبض على المشاركين أو سيقتلون رميًا بالرصاص. ليس هذا فقط، بل إن من الأمور الكارثية إخراج مسيرة بها عدد قليل من المحتجين. ربما أيضا تسير مظاهرة ما بشكل ممتاز، لكن فجأة يقرر أحدهم – ربما يكون مستأجرًا من عدوك – إلقاء حجارة على الشرطة، ثم ستتصدر أخبار المظاهرة عناوين وسائل الإعلام في المساء. مظاهرة واحدة فاشلة قد تدمر حركة تحررية.
إذًا ما البدائل؟ قد تبدأ بتكتيكات التشتيت، مثل إحداث ضجيج منظم، أو اختناق مروري مدبر يقود الناس فيه سياراتهم بنصف سرعاتها المعتادة. هذه التكتيكات تُظهر أنك تحظى بانتشار كبير وتزيد من ثقة الناس وإحساسهم بالأمان. «أوتبور»، والتي بدأت بـ11 عضوًا ووصلت إلى 70 ألفًا في عامين، تدين بالفضل في انتشارها للخطة التالية: 3 أو 4 نشطاء ينظمون عرضًا مسرحيًا ساخرًا ضد «ميلوسوفيتش»، الناس يشاهدون، يبتسمون، ثم ينضمون.
خرافة: اللاعنف قد يكون الأسمى أخلاقيًا، لكنه بلا فائدة في مواجهة مستبد وحشي
اللاعنف ليس فقط الخيار الأخلاقي، لكنه الخيار الإستراتيجي في معظم الحالات. «إن اعتراضي الأكبر على العنف هو أنه ببساطة لا يفيد»، هكذا يقول «بوبوفيتش». العنف هو الشيء الذي يُتقنه كل مستبد أفضل كثيرًا من المدنيين. إذا كنتَ ستختار مجالًا تتبارى فيه مع ديفيد بيكهام، فلمَ تختار أن تنافسه في كرة القدم؟ ربما من الأفضل أن تنافسه على رقعة شطرنج.
لسنا بحاجة لذكر ما آل إليه وضع السوريين الذين أتوا إلى الورشة، لقد كان لهم تأثير ضعيف على الإستراتيجيات التي اختارتها المجموعات الأخرى المناهضة للأسد. ساد العنف في النهاية، والنتائج كانت كارثية.
هذه هي رؤية «بوبوفيتش»: للعنف غالبًا نتائج كارثية. الأكاديميتان «إريكا تشينوويث» و«ماريا ستيفان» قامتا بتحليل حالات العنف واللاعنف في ثورات القرن الماضي. يستخدم كتابهما «لماذا تنجح المقاومة المدنية» يستخدم شعار قبضة «أوتبور» على غلافه، ويستنتج أن حركات اللاعنف تحقق ضعف معدلات النجاح التي تحققها المقاومة العنيفة، كما أن احتمال محافظتها على مكاسبها أكبر.
عدد قليل من الناس سينضمون لتحرك عنيف. استخدام العنف يفقد المعارضة دعم الملايين من الناس، دعم كان بإمكانهم أن يحظوا به من خلال اللاعنف.
كبار السن في صربيا كانوا قاعدة الدعم الرئيسية لميلوسوفيتش. فازت «أوتبور» بدعمهم حين استفزت النظام واستخدم العنف. حين أدرك قادة أوتبور أن من يقبض عليه من أعضاء الحركة يتم إطلاق سراحه بعدها بساعات، نظموا احتجاجات تهدف إلى احتجاز العديد منهم. الأجداد لم يحبوا أبدًا رؤية أحفادهم ذوي الستة عشر عامًا محتجزين من قبل الشرطة. كما لم تقنعهم الاتهامات الرسمية الهستيرية لطلبة في الثانوية بالإرهاب والخيانة. تحولت انتماءات كبار السن، ليصبحوا داعمين رئيسيين لحركة «أوتبور». إذا كانت هناك أي حقيقة وراء اتهام «أوتبور» باستخدام العنف، فإن الأجداد ما كانوا ليتحوَّلوا أبدًا عن دعم «ميلوسوفيتش».
خرافة: لا مجال في السياسة إلا للأمور الجادة
طبقًا لفيلسوف شركة «بيكسار» للإنتاج الكرتوني، «جيمز سوليفان»، فإن الضحك أقوى عشر مرات من الصراخ. لا شيء يكسر خوف الناس ويدمر هالة الزعيم الذي لا يقهر مثل السخرية منه. يسميه بوبوفيتش «النضال بالضحك».
كتب بوبوفيتش عن مظاهرة في أنقرة نُظمت إثر إنذار الشرطة التركية لحبيبين يتبادلان القبلات في محطة مترو. كان بإمكان المعترضين أن يجوبوا الشوارع، لكنهم في المقابل، قاموا بتقبيل بعضهم. 100 زوج تجمَّعوا في محطة مترو، ليُقبلوا بعضهم بكثير من المداعبات والضوضاء. أنت رجل شرطة، لديك تدريب بخصوص مواجهة المظاهرات المناهضة للدولة، لكن، ما الذي يمكنك فعله الآن؟
خرافة: فضح انتهاكات حقوق الإنسان يُحفز الناس
معظم الناس لا يبالون بحقوق الإنسان. إنهم يبالون بالكهرباء، ووجود أساتذة في كل فصل ومدرسة، وقروض معقولة توفر لهم سكنًا مناسبًا. إنهم سيدعمون معارضة لها رؤية مستقبلية بخصوص كيفية جعل حياتهم أفضل. التركيز على هذه الأمور الملموسة المهمة ليس فقط أكبر تأثيرًا، لكنه أكثر أمانًا أيضًا. في ورشة إستراتيجيات اللاعنف، تعلم الشباب من بورما أنه من المجازفة البدء في الدعوة إلى أهداف سياسية، لهذا قرروا أن ينظموا حملة يطلبون فيها من سلطة مدينة يونجان أن تجمع القمامة.
بدأ غاندي حملته للعصيان المدني الواسع بالتركيز على حظر بريطانيا لجمع أو بيع الملح. فشل هارفي ميلك في دخول مجلس مدينة سان فرانسيسكو عدة مرات، ثم فاز حين بنى حملته على تنظيف حدائق المدينة من فضلات الكلاب، وليس على حقوق المثليين الجنسيين. المفيد في هكذا حملات أن أهدافها قابلة للتحقيق، لتكبر الحركة التحررية بتحقيق انتصار صغير تلو الانتصار الصغير.
ليس الحديث المتكرر عن بؤس الحياة تحت حكم مستبد إستراتيجية جيدة لحشد الناس. إنهم يعرفون هذا البؤس بالفعل، وقد تأقلموا معه وملأهم التشاؤم والسخرية، والخوف، والتشرذم والسلبية. ربما يكونون غاضبين، لكنهم لن يتخذوا خطوة إيجابية. الغضب ليس محفزًا للتحرر.
كان هذا العائق الأكبر أمام «أوتبور». معظم الصربيين أرادوا إسقاط ميلوسوفيتش. لكن الأغلبية العظمى آمنت أن إسقاطه مستحيل، وأن مجرد المحاولة أمر شديد الخطورة.
أخرجت أوتبور الناس للشوارع بجعل التحرك مرتكزًا على هويتهم الشخصية. الشباب توافدوا على «أوتبور» لأن هذا كان يجعلهم يشعرون بالمتعة والأهمية. «أوتبور» كان لديهم موسيقى رائعة وقمصان مميزة مزينة بقبضة اليد. تبارى الرجال في إظهار عدد مرات اعتقالهم. هكذا لم يعد يشعر شباب صربيا أنهم ضحايا سلبيون، بل رأوا أنفسهم أبطالا فاعلين لديهم الكثير من الجرأة.
خرافة: حركات اللاعنف تَطَلّب قادةً ذوي كاريزما عالية وخطابات ملهمة
لم يكن لأوتبور أي خطب حماسية أبدًا. كانت إستراتيجياتهم مخططة بدقة، لكن الأشخاص الذين رسموا هذه الخطط كانوا يعملون من خلف الكواليس. المتحدث باسم «أوتبور» كان يتم تغييره كل أسبوعين، وغالبًا ما كان المتحدث فتاة في السابعة عشرة من عمرها، تقول ببراءة: «إرهابيون؟! نحن؟!»
في حفل تقليدي، حتى لو كان حفلاً لمعارضة مستبد، فإن مهمة القائد إلقاء الخطب، ليستمع الأتباع ويهتفوا. لكن ليس في «أوتبور». تم اختبار رسائل «أوتبور» في مجموعات ضغط بعينها، كما تم التخطيط للإستراتيجيات المتبعة بعناية. على المستوى الإستراتيجي لم يكن الأمر أناركيًا (فوضويًا). لكن على المستوى التكتيكي كانت اللامركزية شديدة الأهمية. كان لدى أوتبور قاعدتان فقط: عليك أن تكون ضد ميلوسوفيتش، وعليك ألا تستخدم العنف مطلقًا. اتَّبع هاتين القاعدتين، ثم ستستطيع فعل أي شيء تحت اسم «أوتبور». هذا جعل النشطاء مشغولين دائمًا، شاعرين بالفخر والأهمية.
خرافة: الشرطة، قوات الأمن، ومؤيدو الدولة هم العدو
ربما، لكن من الأفضل أن تتعامل معهم باعتبارهم حلفاء محتملين. لم تسخر «أوتبور» أبدًا من الشرطة أو تلقي الحجارة عليهم. كان أعضاء «أوتبور» يُحيّون الشرطة ويذهبون بالورود والكعك إلى مقراتهم. حتى الاستجوابات بعد الاعتقال كانت فرصة لأعضاء «أوتبور» للتآخي مع الشرطة وشرح التزامهم الكامل باللاعنف.
نجحت الفكرة، عرفت الشرطة أنه في حال نجحت الاحتجاجات ستضمن لهم «أوتبور» معاملة عادلة. خلال المعركة الأخيرة ابتعد ضباط الشرطة عن الحواجز والمتاريس عندما طلب منهم المحتجون ذلك. المستبد الذي يخسر طاعة جهازه القمعي ينتهي.
عشتُ في شيلي عندما ارتكبتْ الاحتجاجاتُ ضد «بينوشيه» الأخطاءَ تلو الأخطاء. كانت نصائح «أوتبور» لتوفر على الشعب التشيلي سنوات من الاستبداد، وربما كانت حركة Occupy في الولايات المتحدة لتبقى حتى الآن لو اتبعت هذه التكتيكات.
لكن لا شيء أكثر مأساوية من التفكير فيما كان بإمكان سوريا أن تكون عليه الآن، لو استطاع نشطاء اللاعنف السيطرة على حركات المعارضة واتباع دليل «بوبوفيتش».