بيروت- قدمت صالة “أيام” في بيروت معرضا فرديا للفنان السوري نهاد الترك بعنوان “رسومات على ورق”، العنوان يشير إلى أن الأعمال كبيرة الحجم والمعروضة في الصالة قد شُكلت حصرا على الورق، لكن الأهم من ذلك هو ما سيكشفه لاحقا الداخل إلى الصالة، إذ سيشعر “بورقيّة” تلك الكائنات البشرية.
يضعنا الفنان السوري نهاد الترك في معرضه البيروتي “رسومات على ورق” أمام نساء ورجال لهم رؤوس تشبه فقاعات متطاولة ومشرئبّة أفرغت من دواخلها، إنه ضرب من ضروب تحنيط سحري لأرواح الأشخاص المرسومة وليس لأجسادها.
كائنات نهاد الترك تجبرنا على التعاطف معها، لأنها تسرد لنا وتقول بكل ما تعلنه ابتساماتها المجروحة وعلامات النصر التي يرفعونها فوق ركام أحلامهم المحطمة، محاولين التعبير عن الصمود والتماسك والصبر إزاء تفكك أوطانهم وضياع هوياتهم. إنهم كائنات الهشاشة الباسلة التي تقاوم ورقيتها، مستفيدة من خفة الورق في محاولة الطيران، إذا صحّ التعبير.كائنات نهاد الترك تجبرنا على التعاطف معها
تلعب رمزية الورق على مفهوم الخفة، فتهب الشخصيات الخفيفة قدرة على أن تكون أرواحا تحمل ذكريات وصور عن الذين عاشوا عذابات فظيعة، وكأنها تنظر إلى أصحابها من مسافة عالية.
من هنا تصبح الأمكنة المدمرة والتي غادرها سكانها قسرا، حاضرة على الدوام في هشاشة الأرواح المحلقة والمدافعة بشراسة عن صلابة الذاكرة، وإصرارها الحثيث على إعادة إنتاج المكان في كل لحظة.
هكذا سوريا المدمرة والجريحة تكون عبارة عن روح الذاكرة الحية التي تطل على الفنان من مسافة بعيدة، بوصفها مصدرا للنتاج الفني، وبيروت هي المكان الذي يحضن هذا النتاج ويسمح له بالإعلان عن نفسه.
الفنان نهاد الترك هو من مواليد حلب 1972، يعيش ويعمل حاليا في بيروت، ومنظمو المعرض يؤكدون أن أعماله المعروضة تلك “مستوحاة من انتقاله من دمشق إلى بيروت، إثر الحوادث المؤلمة هناك. توحي هذه السلسلة بالتفاؤل ظاهريا، وفي المقابل تقدم رواية كئيبة حول فكرة الانتقال والنزوح من خلال الشخصيات المبتكرة”.
قد يكون هذا التفاؤل المذكور آنفا عبارة عن فيض تهكمي وطرافة قاتمة اللون، تضع الثلج على مواضع الحروق.كائنات نهاد تحاول التعبير عن الصمود والتماسك
البنية الحركية التي صاغ بها نهاد الترك النسيج الخطوطي الدقيق الذي لا يمكن تفكيكه ولا حلّه، هي أكثر ما يعبر عن هشاشة وجود الإنسان “الإنساني” من ناحية، وتعاظم قوته المتأتية من إصراره على الحياة، والموت من أجلها.
معظم وجوه الفنان عليها أثر كدمات ولطمات، وقد جمدت الدماء تحت “مخرمات” الجلد، فهي غالبا ما تكون حول العيون شبه المتطاولة وشبه المنغلقة والتي تشبه أقفاصا ذات عيدان شفافة، أراد منها الفنان لا افتعال الأسر، بل حماية نظرات شخصياته من حُرقة المشاهد المطروحة أمامها، حتى يمكنها أن تعبر الجسر بأقل ضرر ممكن من الشام حتى بيروت وصولا إلى صالة “أيام” البيروتية.
يبقى عصفور النار متعدد الألوان الذي يخترق فضاء جميع لوحات نهاد الترك ثيمة واسمة تزيد من جمالية وتعبيرية لوحاته. هو عصفور يتحول وفق حضوره في اللوحات، نراه في لوحة عصفورا جائعا يفتح منقاره، أو قطرة دم تنزلق بخفة، أو بقايا منديل حملتها الريح إلى جانب مالكه المُجسد في اللوحة.
أطلق الترك على احدى لوحاته اسم “المغني”، حيث يبدو رأس إنسان له عنق دمويّ اللون، في إشارة ما إلى الشهيد إبراهيم القاشوش. يحاول الفنان تحويل الألم الثقيل إلى روح ورقية خفيفة، تطير وتشهد وتبوح.
العربميموزا العراوي