نصف قرن على حرب 5 حزيران (يونيو) 1967. كان عمر الدولة الصهيونية 17 عاماً. وكانت المسألة الفلسطينية في مقدم أولويات حركة التحرر العربية والعالمية. لم تكن نتائج الحرب نكسة أو نكبة فحسب، بل هزيمة عسكرية وروحية طاولت التاريخ والجغرافيا والهويات، وكانت بداية عصر جديد ونظرة مختلفة إلى الذات والآخر. العرب تغيروا. الدولة الصهيونية تغيرت، «صار دماغها العسكري أكبر من جسدها، فأصبحت أسيرة لفائض قوة جشعة» (محمود درويش). الدول العربية انقلبت على نفسها، بعضها أصبح أكثر عداء لفلسطين والفلسطينيين. حمّلهم سر تخلفه فأزاح القضية ليغرق في قضايا أكثر ملاءمة لطبيعته ودرجة وعيه الجيوسياسي.
بعد نصف قرن سقطت شعارات الوحدة العربية. تحولت أحزاب العروبة إلى تجمعات طائفية، داخل كل طائفة مذاهب، ولكل مذهب شيخ طريقة. شعار الأمة الواحدة من المحيط إلى الخليج سقط في مياههما. أما شعار الحرية والاشتراكية فلم يعد سوى رطانة من يحن إلى ماضٍ لم يكن مجيداً. اندثرت أحزاب وصعدت أخرى. نبتت دول فطرية شعارها: أنا أولاً وبعدي لا أحد.
لم تهبط هزيمة الخامس من حزيران من السماء. لم تكن قدراً. كانت نتيجة طبيعية لواقع عربي رديء. دول مستقلة حديثاً، شعوب متفرقة، إمبراطوريات استعمارية انسحبت تسعى إلى العودة. روح نكبة 1948 طاغية. الخوف من «الخيانات» منتشر. مصر خرجت من المعادلة السابقة. صارت داعية سلام، بعدما قادت حربين. حركة عدم الانحياز التي تزعمها جمال عبد الناصر انتهت. صارت القاهرة محاصرة بين أفريقيا وإسرائيل. اتفاقات كامب ديفيد لم تحول سيناء إلى جنة. الصحراء أصبحت ملاذاً للإرهاب. الأردن أمعن في خروجه وابتعاده عن أتون النار. المقاومة الفلسطينية مقاومات وولاءات، للدول الإقليمية حصة في كل منها. الجامعة العربية ولاءاتها في مواجهة إسرائيل انتهت. النظام العربي المسؤول عن الهزيمة انقضى، وولادة نظام جديد دونه أنهار من الدماء وتدمير بلدان وإبادة شعوب، دونها خلافات على القيادة والتوجهات والإستراتيجيات والتحالفات الدولية الإقليمية، وقتال على الماوراء والحوريات.
انتصار لبنان عام 2000 وانسحاب الجيش الإسرائيلي ثم هزيمته عام 2006 بعد هجوم دام 33 يوماً، تحول إلى خلافات لبنانية- لبنانية، وعربية- عربية، واعتبره البعض انتصار فئة على فئة وإخلالاً بالمحاصصة الطائفية والمذهبية، «ليس هنالك نصر نهائي ولا هزيمة نهائية، فهذان المفهومان يتقنان لعبة التناوب والاحترام المتبادل، كي يكمل السيد التاريخ حركته اللانهائية، المهم هو: ماذا يفعل المنتصر بالنصر، وماذا يصنع المهزوم بالهزيمة» (محمود درويش).
في المحيط، إيران الشاه (شرطي الخليج)، أصبحت إيران الثورة الإسلامية، لكنها ثورة مذهب محاطة ببحر من المذاهب المناهضة. عداؤها لإسرائيل يدخلها في حروب جيواسترتيجية تبدأ بموسكو وواشنطن ولا تنتهي في الخليج. تركيا أتاتورك صارت تركيا أردوغان و «الإخوان المسلمين»، علاقاتها بإسرائيل تزداد قوة يوماً بعد يوم. أنقرة ما زالت تنظر إلى ديار العرب سناجق وإيالات عثمانية سلخت عن السلطنة. استعادت روحها السياسية الإسلامية مغلفة بشعارات الأطلسي مطرزة على عباءة السلطان.
قلب العالم العربي (سورية والعراق) أو «دولتا المواجهة» أصبحتا دويلات تنتظر مباركة أميركا لتكرس نفسها.
قبل خمسين عاماً كان العدو واضحاً: الولايات المتحدة وإسرائيل. بعدها أصبحنا أصدقاء العدو ندعوه لنجدتنا من أنفسنا.
صحيفة الحياة