العربي الجديد
تَحَدَّثَ الرفيقُ الأمينُ العام لحزب البعث العربي الاشتراكي؛ القائدُ العام للجيش والقوات المسلحة؛ رئيسُ الجبهة الوطنية التقدمية، بطلُ الممانعة والصمود والتصدي؛ رئيسُ الجمهورية العربية السورية، رئيسُ الجمعية السورية للمعلوماتية، الرفيقُ المناضل الدكتور، بشارُ الأسد، في واحد من خطاباته التاريخية التي سبقت الثورة، عن ضرورة التفاؤل.
أوضح لنا سيادتُه أن الجدير، أو الحَرِيّ، بالمواطن السوري، أن يُركّز نظره على النصف الملآن من الكأس، لأن إدامة النظر في النصف الفارغ منه يهيئ بيئة خصبة لدى المواطن السوري للضلوع، أو الاشتراك، أو المساهمة، في أية مؤامرة يمكن أن تُحاك ضد وطنه المعطاء، وأمته العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة.
ولأننا مواطنون سوريون نظاميون؛ وعلى الرغم من كوننا متأكدين من أن هذا الرئيس يعاني من ارتجاج قوي في دماغه؛ فقد امتثلنا لأمره، وشرعنا نُبَحّرْ في النصف الملآن من كأسنا، مثلما يُبَحِّرُ فَتَّاحُو الفأل في وعاء الرمل،.. وخرجنا من وراء هذا التبحير بأفكار مدهشة.
اكتشفنا، مثلاً، أن السجن السوري هو الأكثر إثارة، وشاعرية، ودراماتيكيةً بين سجون العوالم الثلاثة: المتقدم، والمتخلف، وعدم الانحياز. العنصر الرئيسي الذي يجعل سجون العالم تفتقد للإدهاش هو أنها تبدأ في زمن معين، وتنتهي في زمن معين، لا تزيد ولا تنقص. فلو أن إدارة السجن، في السويد، أو في تركيا، أو في فرنسا، مثلاً، أَخَّرَتْ إطلاق سراح مواطن سجين انتهت مدةُ سجنه، ساعتين فقط، لأقامَ ذلكم المواطنُ الكونَ وأقعدهُ، بتعبير أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب في قصيدة (مضناك جفاه ومرقده).
إن الإثارة الأسدية، في عالم السجون، لا يمكن مجاراتُها، ولا تقليدُها، ولا الإتيانُ بمثلها. ففي حين يُقال في دول العالم الأخرى، ببساطة، إن فلاناً الفلاني دخلَ السجن؛ يقال عندنا: فلان دَحَشوه في الحبس! نقعوه! أخذ تأبيدة! سلمناه لله! راح فيها! عليه الرحمة ومنه العَوَض! الأعمار بيد الله! الداخل إلى السجن مفقود والخارج منه مولود!.. إلخ
لقد حَرَمَت الطبيعةُ الكاتبَ والأديبَ في العالم المتقدم من أية مادة (خام) تساعده على إنجاز مقطوعة أدبية رفيعة المستوى من عالم السجون! فبالله عليكم؛ ماذا في مقدور كاتبهم أن يكتب في هذا المجال؟ هل يقول إن فلاناً الفلاني سُجِنَ لأنه خالف القانون، وعومل في السجن معاملة ممتازة، بدليل أن وزنه زاد حوالي ثلاثة كيلوجرامات خلال سجنه، وإن عائلته كانت تزوره في الأوقات المحددة للزيارات، وكان يُعطى، كل ثلاثة أشهر، إجازة مدتها أسبوع يُمضيها في بيته، وإنه تعلم، خلال مدة سجنه، لغة أجنبية مهمة، أو تعلم العزف على الكمان، وسُمح له بمتابعة دراسته الجامعية، وحصل على دبلوم التربية والماجستير خلال سجنه؟!
تبدأ الإثارة، في سجون سورية الأسد، منذ لحظة الاستدعاء. إذ تقول الدورية للمواطن السوري: نريدك عندنا في الفرع، غداً، التاسعة صباحاً، خمس دقائق فقط، على فنجان قهوة.
لا ينامُ هذا المواطنُ الليلَ وهو يفكر.. ليس بالقهوة، ولا بنوعية الفناجين التي تُسكب فيها، ولا بكونها بسكر وسط، أو على الريحة، أو بلا سكر، وإنما يبدأ باسترجاع شريط حياته من يوم أن قذفته أمه من رحمها الدافئ إلى الحياة، وهو يصيح واع ويع، وصولاً إلى اللحظة التاريخية التي استدعي فيها لتناول فنجان القهوة الذي لن يشربه قط.
وبعدما يخش حضرتُه في ذلك المبنى الرهيب، تبدأ الإثارة الحقيقية التي يوماً ويومين وجمعة وشهراً وشهرين، على قولة نصري شمس الدين، وسنة وسنتين وعشراً، وتتآكل عظامه، حتى تصبح مثل المنجيرة التي زعم ميشال طراد أنها شاركت الراعي بالبكاء لأجل أن يتسلى، فإذا بقي، بعد هذا، على قيد الحياة، يكون من ذوي العمر الطويل، وإذا مات، يكون قد أثبت بالدليل القاطع أن (الأعمار بيد الله).