لن أذهب مع الفرضية التي تقول إن ما حدث في تركيا كان مسرحية معدة سلفاً من الرئيس رجب طيب أردوغان، لاختبار مدى تعلّق الشعب به من جهة، ولتصفية خصومه في الجيش والمؤسسات العدلية من جهة أخرى. لن أقول إنه كان ينوي بهذه العملية العسكرية الصغيرة، حشد الأتباع والأنصار لينال بركتهم عندما يقرر نقل صلاحيات إدارة الدولة له، وفي الوقت ذاته وفي الضربة نفسها، يفعل ذلك ليقصي أعداءه «أنصار فتح الله غولن» في الداخل، فيتحلل من المقاومة الداخلية الأكبر.
لن أذهب بعيداً في هذا الطريق لأن الشواهد التي تدعم هذه الفرضية إما غير موجودة وإما ضعيفة جداً لا يمكن التحقق – على الأقل في الوقت الراهن – من صحتها!
ما حدث كان بالفعل، وفق المعلومات المتاحة، تحركاً ضد رجل تركيا القوي! مجموعة صغيرة من الجيش خططت وتحركت لتطيح رئيس الدولة وتعيد البلاد الى الحكم العسكري مجدداً، لكنها فشلت في فترة قياسية.
الذين تحركوا ضد الحكومة الشرعية رجال يلبسون بدلات الجيش! ومن وقف أمامهم ليس الشعب كما يتردد في وسائل الإعلام المؤيدة لأردوغان، وإنما الجيش! تحرك عسكري قصير أسقطه الجيش قبل أن يكبر ويتمكن من انتزاع الكلمة العليا في تركيا.
المواطنون الأتراك كان لهم دور كبير بلا شك في إبطال التحرك العسكري، فمن خرج الى الشارع منهم بصدرٍ عارٍ في تلك الليلة كان مدفوعاً برغبة متفلتة وشجاعة في الحفاظ على النسق الديموقراطي في البلاد، سواء أكان نسقاً مثالياً أم غير مثالي، لكن لولا عناية الله ثم تدخل الجيش في الوقت المناسب لكانت الحسابات مختلفة.
هكذا بكل بساطة… مجموعة صغيرة قمعها الجيش في ساعات قليلة، ولم ترق تحركاتها المعدودة لأن تُسمى انقلاباً، حتى وإن أراد أردوغان أن يسميها كذلك! الانقلاب لا يُخطط له بهذه الطريقة، ولا يُنفذ بوسائل كهذه ولا ينتهي كما شاهد الجميع! هو تحرك صغير أخذ أردوغان ينفخ فيه حتى جعل منه انقلاباً كبيراً على الديموقراطية والشرعية والسلم الاجتماعي في تركيا! أردوغان الرجل الداهية، ما كان ليفوت هذه الترقية الكلامية الصغيرة التي سيكون لها أكبر الأثر في مستقبله السياسي.
لكن، لماذا تحرك هذا الفصيل الصغير لإسقاط أردوغان، وما الذي سيتغيّر في المشهد التركي؟
قبل أكثر من 20 عاماً، كان تورغوت أوزال، الرئيس الثامن ورئيس الوزراء الـ20، يملأ المشهد السياسي والاجتماعي التركي، كان رجلاً قوياً ومتديناً مثل أردوغان بالضبط. وساهم في صناعة منصة اقتصادية ضخمة ومتينة لبلده مثل أردوغان بالضبط، وأنهى فترته كرئيس للوزراء ثم انتقل مباشرة إلى منصب الرئيس مثل أردوغان بالضبط، وحاول أن ينقل صلاحياته كرئيس وزراء إلى منصب الرئيس ويضيف إليها، مثل أردوغان بالضبط، وتحدث عن الحاجة إلى تغيير الدستور مراراً كما يتحدث اليوم أردوغان بالضبط، وقيل إنه قُتل مسموماً بتحرك عسكري صغير لم يُكشف عنه حينها، فيما نجا أردوغان من انقلاب عسكري عرف عنه كل العالم!
نقل صلاحيات رئيس مجلس الوزراء الى الرئيس وتغيير الدستور سيجعلان من أردوغان الرجل التنفيذي الأول في تركيا للسنوات الثماني المقبلة (دورتان رئاسيتان مضت منهما سنتان تقريباً)، وهو الذي كان «بصلاحيات أقل» الرجل التنفيذي الأول في السنوات الـ13 الماضية! 21 عاماً كافية لأن تجعله قادراً على أن «يُربي» شعباً جديداً ويزرع فيهم مبادئ «أردوغانية» جديدة قد تمحو جزءاً مهماً مما تختزنه الذاكرة الشعبية التركية من المبادئ الأتاتوركية! أمر كهذا سيوغر صدور البعض ويكشف عن عمق الأزمة العلمانية التركية التي تتأرجح بين البدلة الغربية والطربوش التركي والحرف العربي! أمر كهذا سيحرك جزءاً صغيراً من الجيش لينتقم!
وأردوغان الذي فاز في الانتخابات السابقة كلها، سيفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وسيكمل منهجه الذي بدأه منذ أن كان رئيس وزراء، والذي يقوم على أن تركيا ليست دولة متوسطة تتوزع مساحتها على آسيا وأوروبا، وإنما هي إمبراطورية كامنة تستطيع أن تزرع مشكلاتها في العالم وأن توجد حلولاً لمشكلات العالم! وهذا أمر ليس الجزء الصغير من الجيش الذي لم يرض عنه فقط، وإنما هناك العشرات من المفكرين والمثقفين الأتراك الذين احتجوا بصراحة عليه وعلى «عثمنة» تركيا مجدداً، وعلى رأسهم الروائي النوبلي أورهان باموق الذي قال صراحة لمجلة إيطالية قبل ثلاثة أشهر: «إن الأتراك يدفعون ثمن جلب كل مشكلات العالم لهم، وإنهم يعانون من تقييد الديموقراطية والضغوط على حرية التعبير». أمر كهذا سيحرك جزءاً صغيراً من الجيش لينتقم!
كمية صغيرة من السم في كأس عصير برتقال في حفلة استقبال، أو رصاصة صغيرة في حفلة خطابية في الهواء الطلق، أو تحرك عسكري صغير كما حدث ليلة الجمعة الماضية! هكذا تنتهي الأساطير مثل أردوغان وأوزال.
نجا أردوغان، وبنجاته سيتغير المشهد التركي كثيراً، فهناك أردوغان قبل 15 تموز (يوليو) وهناك أردوغان بعد 15 تموز! هناك رجل كان يتقوى بالشعب في الميادين، وهناك رجل أصبح يتكئ بغير رضاه على جنرالات الجيش! سيدفع ثمناً كبيراً لشكر «حامي العلمانية» الذي وقف بجانبه وأخرجه من «الشبه الكامل» بتورغوت أوزال، وسيعرف أن «الديموقراطية الظاهراتية» التي ظن لفترة من الزمن أنه الوحيد القادر على قطف ثمارها، مقسمة على خطوط القوة في البلاد.
نجا أردوغان لكنه سيعود لتبني أفكار من حاولوا اغتياله واغتيال حكمه الطويل جداً في النظم الديموقراطية!
الحياة