لا يفتأ بشار الأسد يؤكّد أولويَّة محاربة الإرهاب لديه، ومِن جديد تصريحاته أن “سورية، وأصدقاءها، مصمِّمون على المُضيِّ في مكافحة الإرهاب، بكلِّ أشكاله؛ لأنهم واثقون بأن القضاء على الإرهاب سيشكِّل الخطوة الأساسيَّة في إرساء استقرار المنطقة والعالم”.
كما لا يتوانى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كما أسلافه من القادة الإسرائيليّين، عن توظيف هذه المغالطة، بزجِّ موضوع الإرهاب في معركتهم، ضدَّ الشعب الفلسطيني؛ لتخلط إسرائيل، عن عمد، بين المقاومة المشروعة قانونيًّا ودوليًّا والإرهاب، في محاولةٍ للتساوق مع هذا الأمر الذي كرّسته واشنطن، واتخذت منه ذريعةً لمآرب سياسيّة تتعدّى حدوده الحقيقيَّة.
ولا يخفى أن هذا الاستخدام، أو الاندراج في هذه العمليَّة المسمّاة محاربة الإرهاب، يحقِّق فائدتين متصلتين: الأولى ترميم الشرعيَّة المهشَّمة، أو المهتزَّة عالميًّا، لكلٍّ من إسرائيل ونظام الأسد، إسرائيل التي تمارس دور المحتلّ بأبشع صوره، وأكثرها استهتاراً بالشرعيَّة الدوليَّة، والرأي العام العالميّ، وحقوق الإنسان، مقترفةً جرائم مشهودة على ملأ من إعلام العالم، ما يصنِّف تلك الاعتداءات في خانة الإرهاب، بل في “إرهاب الدولة”، بلا أيّ مبالغة؛ لما تنطوي عليه من استهداف للمدنيّين، أو الاستعمال المفرط للقوّة، أو القتل من دون مبرِّر، أو خطر حقيقيّ.
ونظام بشار الأسد تآكلت شرعيّته، إثر الاحتجاجات الشعبيَّة الواسعة، وما تلاها من معالجات أمنيَّة حربيّة، أفضت إلى تدمير الحياة الطبيعيَّة في سورية. والفائدة الثانية، إسرائيليًّا، صرف الأنظار عن الاستحقاقات التي يُفترَض أن تؤدّيها إسرائيل، بعد أن أدَّى الطرفُ الفلسطينيُّ، من جانبه، كلّ ما يستطيع من (استحقاقات العمليَّة السياسيّة).
وهنا، تنسى حكومة إسرائيل أن الاحتلال، بحدّ ذاته، هو جريمتُها المعلنة، والمصرّة عليها، كما تنسى اعتقالها الأطفال، وقتلهم، وتتناسى حمايتها المستوطنين، فعليًّا، بجنود الاحتلال، والتغطية على جرائمهم، كما حصل، مثالاً، لا حصرا، في جريمة حرق أسرة دوابشة.
وقد تعامل (القضاء الإسرائيلي) مع قتلَة الفتى، محمد أبو خضير، الذين دانتهم محكمة إسرائيليَّة بقتل خضير وحرقه، لكنها قالت إنها تريد التأكُّد من الأهليَّة العقليَّة، وذلك بعد أن قدّم محامي الدفاع عن المتهم الرئيسي في الجريمة، يوسيف بن دافيد، تقريراً طبّيًّا عن الوضعيَّة النفسيَّة، يدَّعي فيه أن المذكور يعاني من اضطرابات نفسيَّة. وهذه الحيلة معهودة من إسرائيل، إذ غالبا ما يتضح أنَّ مجرميها وإرهابيِّيها مجانين، أو مضطربون نفسيًّا.
كما كان من تخليص حارق المسجد الأقصى، دينس مايك، في 1969، من العقاب، حين زعمت إسرائيل أنه مجنون، ثم رُحِّل إلى أستراليا؛ وظلّ يعيش فيها، من دون أن يظهر عليه أيُّ أثر للجنون، أو غيره.
ثم لا يمنع ذلك كله، وغيرُه، نتنياهو أن يخرج متشدِّقاً ومزاوداً، بأنه يحمي الأماكن المقدّسة، (ومن أبرزها المسجد الأقصى) من داعش.
وكذلك يفعل بشار الأسد، حين يحاول صرف الأنظار عمَّا ينبغي على نظامه أن يفعله من تغييرات في بنيته الأمنيَّة التي لم يعد قسم كبير من الشعب السوري يقبل بها، وهو النظام ذو السوابق في الإرهاب، إذ سبق لبشار أن هدَّد في مقابلة له مع “صنداي تايمز” البريطانيَّة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 بـ”زلزال يحرق المنطقة بكاملها”، وهدَّد بأفغانستان أخرى، أو بالعشرات من أفغانستان، ولم يكتفِ بالقول، بل شرع في الفعل، وما قضيَّة الوزير اللبنانيّ الأسبق، ميشال سماحة المستشار لبشار الأسد الذي اعترف بالتخطيط، مع رموز نظام الأسد؛ للقيام بعمليّات تفجير واغتيال، داخل لبنان، كان من شأنها أن تهيئ لحربٍ أهليّة، ما قضيّته عنّا بعيدة.
ومن جهةٍ، ما أحدثه الأسد في سورية، منذ ما يزيد عن أربع سنوات، يكفي ويزيد لتنصيب بشار من أكابر الإرهابيّين؛ بما تسبَّب به من دمار عام لمقدَّرات البلد، ولنسيج وحدتها الاجتماعيَّة، ولا تعوزنا الأمثلة من أيقونات الثورة السوريَّة، من أمثال الطفل، حمزة الخطيب الذي قُتِل بعد اعتقاله، 25 يونيو/ حزيران 2011، ومُثِّل في جسده أبشعَ تمثيل، إلى منشد الثورة، إبراهيم القاشوش الذي قتلته قوّات الأمن السوريَّة، 4 يوليو/ تموز 2011، وذبحته، واقتلعت حنجرته، ثم ألقته في نهر العاصي.
وفي المحصِّلة، قتل نظام الأسد أضعافَ أضعاف ما قتله تنظيم داعش وجبهة النصرة، لكنه يقترب من أن يصبح ركيزةً مهمَّة في محاربة الإرهاب، مع أن أطروحة أن بقاءه كان من أهمّ مغذِّيات التطرّف والدمويَّة في سورية، ومن أهمّ محفِّزات الطائفيَّة السياسيّة لا تزال شاخصةً، نظريًّا وعمليًّا.
وعلى الرَّغم من ذلك كله، تظلّ السياسة، أو القرارات السياسيَّة، أكثر مَيْلا، نحو التبسيط المخلّ، فبحسب (الواقعيَّة السياسيَّة) التي يفرط الرئيس الأميركيّ، باراك أوباما، في استخدامها، فإن الخطر الأكبر ينبغي تقديمُه على الخطر الأصغر، والخطر الداهم ينبغي حسمه، قبل الخطر الآجِل، فـجماعات مثل داعش وجبهة النصرة، ومَن هي على شاكلتها، أخذت تشكّل خطراً واسع النطاق، والهوّة بين المنظومة الغربيّة، وتلك الجماعات (الجهاديَّة) واسعة وعميقة، فلا مجال للتعايش معها، أو لحلول وسط، لكن الأسد المندرج ضمن المحور الإيرانيّ الروسيّ، يمكن، في أقلّ الطموحات، احتواؤه، أو مساومته.
لكن هذا التعاطي يتجاهل الطرف الآخر، (الفلسطينيّين في حالة نتنياهو، والشعب السوريّ، أو قسما كبير منه في حالة الأسد) ومتطلّباته وحقوقه. كما يتجاهل أن هذه الكيانات لا تعرض محاربة الإرهاب طرفاً أصيلاً، بقدر ما أن هدفها الأصيل هو البقاء، على ما هي عليه من احتلال وتوسُّع (إسرائيل)، وكذلك نظام الأسد الذي له تجارب وسوابق في التعاون مع من كانت الولايات المتحدة تصفهم إرهابيِّين، في أثناء احتلالها العسكريّ للعراق. فهل أصبحت محاربة الإرهاب وسيلةً لتبييض وجوه ساسة مفلسين؟ بل ومتورِّطين في جرائم إرهاب ضدَّ شعوب أخرى، أو جرائم إنسانيَّة ضدَّ شعوبهم؟!
جوهر المسألة أن الانخراط في محاربة “الإرهاب” لا يبرّئ المنخرطين من جرائمهم السابقة، والراهنة، ولا يلغي مسؤوليَّتهم عن ازدهاره. بل يلقي بظلال الشكّ على العمليَّة برمّتها، وقد يسعّر نار الإرهاب، ويزيده جنوناً.
وهذا الإصرار من إسرائيل ونظام الأسد المتقاطعَيْن في جزئيَّة توظيف “الحرب على الإرهاب” على رفض الاعتراف بالوقائع الموجبة للتنازل، وإحقاق الحقوق يجعل منهما مغذِّياً مستمرًّا للبيئة الاجتماعيَّة التي تشجِّع التطرُّف والعنف، ويشكّك حتى في النيات الغربيَّة من إطلاق هذه الحرب، ما قد يُدخلها في حالةٍ من التضليل لشعوبها التي اصطلت بنار الإرهاب، في حواضرها وعواصمها.
العربي الجديد