المسودة المسربة للاتفاق الأمريكي الروسي بشأن سوريا تثير العديد من التساؤلات في عقولنا. ولكن علينا أولًا أن نجد الطريقة الصحيحة لقراءة نص الاتفاق. هذا النص، مثل أي نص في مثل هذه الظروف، من الصعب تحليله بل يصبح أكثر غموضًا إذا لم يُقرأ من خلال منهج تحليلي واضح وبتركيز دقيق على الوضع على الأرض.بشكل عام، يمكننا أن نقرأ نص الاتفاق، المعنون “الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة”، في سياق النظر في سوريا كدولة مقسّمة إلى ثلاث مناطق: المنطقة (أ)، تخضع لرقابة مشددة من نظام الأسد وحلفائه، والمنطقة (ب)، تنشط فيها جميع الأطراف المتحاربة، باستثناء داعش لكن تضم الأسد كذلك، والمنطقة (ج)، التي تقع تحت السيطرة الحصرية لتنظيم داعش.
الآن، المنطقتان (أ) و (ج)، لا تمثلان أي مشكلة. جميع الأطراف، بما في ذلك المعارضة، لا تتصارع على المنطقتين. في المنطقة الأولى، لا يوجد قتال، وفي الثانية لا أحد يعارض من يريد تفجير داعش (رُغم أنَّ هناك علامات استفهام كثيرة حول مَن سوف يسيطر على أراضي داعش بمجرد أن ينهار التنظيم). المناطق التي تمثل إشكالية كبرى هي تلك التي تقع تحت المنطقة (ب).
تنخفض المنطقة (ب) إلى منطقتين رئيسيتين: حلب والجبهة الجنوبية. هناك بعض البقع الصغيرة في جميع أنحاء حمص وحماة وغيرهما، ولكنها لا تمثل مشكلة مثل حلب والمنطقة الجنوبية من دمشق.
مع أخذ هذا في الاعتبار، يمكننا المضي قُدمًا لتحليل الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة.
مثل أي صفقة مماثلة، يكشف اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة عن أهداف الموقّعين التي نلخصها هنا في العمل معًا “لهزيمة جبهة النصرة وتنظيم داعش في سياق تعزيز وقف الأعمال العدائية ودعمًا للعملية الانتقالية السياسية الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 2254.” السؤال الأول الذي يبادر إلى الذهن عند قراءة هذا هو: أين بيان جنيف الأول عام 2012، الموقّع من قِبل أمريكا وروسيا، في هذا السياق؟ يبدو أنَّ الولايات المتحدة قد تراجعت عن العديد من الالتزامات العامة للالتزام بالاتفاق.
لقد نوقش الفرق بين اتفاقية جنيف الأولى وقرار مجلس الأمن رقم 2254، بالتفصيل في أعداد سابقة هنا. ولكن بإيجاز، يعتبر قرار مجلس الأمن رقم 2254 خطوة إلى الوراء من اتفاقية جنيف الأولى، وهذا الأخير هو التعبير الرسمي لعقيدة “داعش أولًا”، التي تطمس طبيعة العملية الانتقالية الواضحة المعالم في اتفاقية جنيف الأولى.
بالنسبة للقرّاء الذين ليسوا على دراية بأسباب معارضتنا لعقيدة “داعش أولًا” من حيث المبدأ، يكفي أن نقول إننا نعتبر قتال داعش والتوصل إلى حل سياسي في سوريا عملية متكاملة واحدة لها ديناميكيتين مترابطتين. حتى لو وصل قتال داعش إلى هدفه المتمثل في هزيمة التنظيم عسكريًا من خلال الفصل الحسابي للاستراتيجية إلى جزأين منفصلين، واحد يتبع الآخر، فإنَّ داعش، كفكرة وكأيديولوجية ستولد من جديد بطريقة أو بأخرى مثلما حدث مع تنظيم القاعدة في العراق بسبب استمرار عدم وجود اتفاق سياسي.
وكما هو موضح أعلاه، بحكم طبيعة اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة كصفقة تركز على المنطقة (ب)، فإنها تتناول قضية مكافحة جبهة النصرة. نص اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة يقول ما يلي في هذا الصدد:
“استهداف النصرة: يقوم أساس التنسيق بين موسكو وواشنطن بحسب الاتفاق على الالتزام بدعم الاستهداف المتعمد لـ “جبهة النصرة”، وما أن يقرر ممثلو مجموعة التنفيذ المشتركة تبادل المعلومات، ويتوصلون إلى معلومات مفهومة لدى الطرفين، تبدأ مجموعة التنفيذ بتنسيق الاستهداف لجبهة النصرة. ويدعو الاتفاق الأمريكي – الروسي إلى تطوير الحملات المشتركة لاستهداف “النصرة”، ويشير أنه على الطرفين التنسيق حيال الأهداف التي طُرحت، وأنه ما أن يتم التوصل لقرار حول الأهداف، على المشاركين تنسيق اقتراحاتهم حول كيفية التعامل مع هذه الأهداف. ويشدد الاتفاق على أن الجهود المصبوبة ضد الأهداف المتفق عليها لن تتضارب سواء من ناحية الجغرافية أو الوقت، باستثناء الأخطار الوشيكة للمشاركين حيث لا يكون بالإمكان تطبيق الاتفاقات المسبقة حول الأهداف، ولن يقوم المشاركون باتخاذ إجراءات ضد أهداف “النصرة” إلّا وفق الاتفاقات المسبقة.”
هناك العديد من الأسئلة في هذا الصدد:
كيف يمكن لطرفي الصفقة تحديد مواقع جبهة النصرة بدقة إذا كانت الجبهة مختلطة مع مجموعات أخرى في حلب أو إدلب؟ المواقف تتغيّر كل يوم، وأحيانًا كل ساعة، كما تتحوّل التحالفات والعداوات بين مختلف المنظمات الناشطة في تلك المناطق.
هل يُلزم الاتفاق روسيا بعدم قصف أهداف أخرى غير مدرجة في عملية التنسيق الموقّعة مع الولايات المتحدة؟جاء في اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة:
“يجب على المشاركين تنسيق اتفاق بشأن أهداف جبهة النصرة التي تُعدّ “قابلة للتعامل معها” من خلال العمليات الوطنية المعنية بالمشاركين. ويجب أن توفر المقرات الوطنية المعلومات عن الأهداف القابلة للتعامل معها لتطويرها واتخاذ قرار بشأنها من قِبل المشاركين. الأهداف القابلة للتعامل معها هي تلك التي تمّ “فحصها” والتي يمتلك عنها المشاركون معلومات استخبارية داعمة دقيقة. ويُسمح للمشاركين باستخدام مصادر استطلاع ومراقبة واستخبارات إضافية لدعم فحص الأهداف المحتملة وفق أولوياتهم الوطنية. ويقوم المشاركون بالتحقق من الأهداف القابلة التعامل معها وفق إجراءاتهم الوطنية لضمان أنها تلائم توجيهات القيادة المناسبة، وإن كانت متوافقة مع القانون الإنساني الدولي وقوانين الاشتباك المسموحة.”
الولايات المتحدة قد تحكم بأنَّ جماعة أحرار الشام، على سبيل المثال، ليست هدفًا، في حين يرونها الروس كهدف محتمل. ما الذي يمكن فعله في هذه الحالة؟ لقد رأينا في مناسبات عديدة الروس وهم يقصفون من جانب واحد المواقع التي يزعمون أنها خاضعة لسيطرة “الإرهابيين”، لنعرف بعد ذلك بفترة قصيرة أنها كانت مستشفيات أو مدارس. هل يعني اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة أنَّ الغارات الروسية الفردية التي لا تتم وفقًا لأحكام الاتفاق المشترك قد لا تؤثر على التعاون بين الجيش الأمريكي والجيش الروسي بغض النظر عن الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان؟ كيف يمكن للسوريين، إذن، التفريق بين القوتين اللتين تعملان معًا في بعض المناطق، وبشكل فردي في مناطق أخرى؟
ينص الاتفاق: “يقوم المشاركون بالتحقق من الأهداف القابلة التعامل معها وفق إجراءاتهم الوطنية لضمان أنها تلائم توجيهات القيادة المناسبة، وإن كانت متوافقة مع القانون الإنساني الدولي وقوانين الاشتباك المسموحة.” منذ متى يمكن لأي شخص أن يفترض أنَّ “العملية الوطنية” الروسية في الاستهداف قادرة على الالتزام بــ “القانون الإنساني الدولي”؟ وحتى لو كانت ملتزمة عند الاستهداف مع القوات الأمريكية، ماذا عن العمليات الفردية التي لا يشملها اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة؟
وينص الاتفاق: ” الأهداف التي يتوافق عليها الطرفان هي التي سيتم تطويرها لأجل الضربات. ويجب على المشاركين تسهيل الاستهداف الدقيق من خلال تبادل مواقع الأهداف المحسوبة. الأهداف القابلة للتعامل معها، التي حدّدها كلا الطرفين، يجب أن يتم التعامل معها كأي أهداف محلية أخرى – ولا تُفترض الأولوية فقط لأنَّ المشاركين قرروا معًا أن الهدف قابل للتعامل معه.”الآن، دعونا نتخيّل السيناريو التالي: وجود قوة حليفة للأسد تتعرض للهجوم من قِبل الجيش السوري الحر، ليقرر الأسد أنه من المهم بالنسبة له أن يتدخل سلاح الجو على الفور لإنقاذ قواته. وبالتالي يطلب المساعدة من الروس. إذا لم يستجيبوا على الفور، فإنّه سيهاجم على أي حال، ويرسل طائراته لإسقاط البراميل المتفجرة. ماذا ستفعل القوتين (أمريكا وروسيا) في تلك الحالة؟
الشرط الوحيد، وفقًا لاتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة، هو “تقديم إشعار مسبق بالعمليات الجوية للنظام المسموح لها بوصفها إعفاءات باستخدام الطائرات العسكرية السورية. يحافظ اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة على النظام السوري الجوي الحالي في المعركة، ويتم الإبلاغ عن تغييرات التخلص من طائرات النظام يوميًا. يجب على المشاركين وضع تدابير للمساعدة في تأكيد التزام الجيش السوري بوقف العمليات الجوية. وبموجب هذا الاتفاق يتم لإبلاغ عن انتهاكات النظام للمشاركين.”
ومع ذلك، جاء في النص: “يحظر على النظام التحليق في مناطق محددة، ويشمل ذلك مناطق وجود جبهة النصرة بكثافة، والمناطق التي تكون فيها المعارضة مهيمنة.”
هل يمكن تحديد تلك “المناطق المعينة” في الأماكن العامة؟ هل حلب جزء منها؟ هل إدلب؟ هل درعا أو الغوطة؟ هل الروس لديهم الحق في قصف تلك المناطق المعينة نيابة عن النظام؟ وماذا لو كان النظام يستهدف تلك المناطق بالمدفعية؟ ماذا سيفعل اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة؟
جميع العمليات والأمثلة المذكورة أعلاه ليست سيناريوهات وهمية أو غير محتملة. إنها تحدث كل يوم. وتبيّن أنَّ نص اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة ليس كافيًا للتعامل مع الواقع السوري. إنّه يعني فقط أنَّ كلا القوتين “يمكن أن يعملا معًا”. ولكن العمل معًا للقيام بماذا بالضبط؟
عندما ندرس السيناريوهات المحتملة التي تتطور على أرض الواقع، نجد أنَّ الولايات المتحدة قبلت العمل ضد جماعات المعارضة السورية، باستثناء المجموعات التي تتلقى مساعدة مباشرة من الولايات المتحدة أو تقودها الولايات المتحدة بالأساس. في واقع الأمر، باقي المجموعات هي أهداف محتملة، سواء من قبل أمريكا وروسيا، أو من قِبل الأسد.
هل سيكون للولايات المتحدة حق النقض على أي من الغارات الروسية على الجماعات غير الإرهابية؟ ابحث في اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة بقدر ما تريد، ولن تجد أي شيء من هذا القبيل. ولذلك، فإننا سنرى عمليات منسقة بين القوتين، بالإضافة إلى العمليات الروسية التي نراها كل يوم. وهذا أمر هام للغاية. إنّه يضع الولايات المتحدة باعتبارها دولة تابعة للهيمنة الروسية على سوريا. هل يعتقد أي شخص أن هاذ من شأنه أن يساعد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟
حق الفيتو الوحيد الموجّه لسياسات الاستهداف الروسية هو حق غير مُلزِم، أو ليس حقًا بالأساس. ينص الاتفاق: “يمكن للمشاركين استهداف تهديدات وشيكة لأفرادهم المعنيين في حال ثبوت عدم جدوى الاتفاق المسبق على الهدف. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للمشاركين استهداف تهديدات وشيكة على رعاياهم من كبار أعضاء مجلس شورى جبهة النصرة والمتآمرين الخارجيين، كما هو متفق عليه من قِبل الولايات المتحدة وروسيا.”
ولكن الاعتذار في حالة روسيا هو وسيلة للحياة؛ فالروس يقصفون مستشفى ثمّ يقولون “عفوًا”، لم نكن نعرف أنَّ هذا مستشفى. هذا بالإضافة إلى الحق في قصف المواطنين الأمريكيين، حتى أعضاء النصرة، تحت مظلة اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة، وهي سابقة فريدة من نوعها.
إذا تمّ تطبيق هذا الاتفاق، فإنَّ النتائج ستكون خسارة فادحة للولايات المتحدة في سوريا. وستتحمل الولايات المتحدة المسؤولية المشتركة للاستخدام الوحشي للقوة العسكرية الروسية الحقيقية أو المتصوّرة.
وعلاوة على ذلك، تتقلص إمكانية التوصل إلى وقف حقيقي لإطلاق النار من خلال اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة. يستند وقف إطلاق النار إلى درجة من توازن القوى، ولا يُقاس ميزان القوى بالقدرات العسكرية فقط، بل إنّه تصوّر أيضًا. الأسد، على سبيل المثال، يعتقد أنّه هو الفائز. وقد بذل قصارى جهده لكسر وقف إطلاق النار من قبل. ولا شيء يمكن أن يجبره الآن لتغيير حساباته. بل العكس من ذلك، فهو يقول للجميع إنَّ تحديه وعناده جعله قريبًا من النصر. هذه العقلية لا يمكن أن تلتزم بأي اتفاق.
في مناسبات سابقة، لم يمنع الروس الأسد من انتهاكات منهجية لوقف إطلاق النار. وفي مناسبات عديدة، ساعد الروس الأسد على القيام بذلك. لماذا تقبل الولايات المتحدة أن تلجأ إلى المساعدة من قتلة من هذا النوع؟
أفضل حُجة يجري الاستشهاد بها في محاولات الإجابة عن هذا السؤال تقول: إنَّ المعارضة لديها بعض العناصر الخطرة التي تتعاون مع جبهة النصرة. وكل ما نريده هو إنقاذ المدنيين من خلال وقف إطلاق النار. ونريد أيضًا توسيع المساحة بين الأسد وموسكو، وهذا سيحدث عندما يحاول الروس إجبار النظام على عدم استخدام طائراته لقصف المناطق “المحددة” في الاتفاق.
لكن الجماعات التي تتعاون مع جبهة النصرة تفعل ذلك تحت ضغط من قوة الأسد الوحشية وحلفائه الروس والإيرانيين. إنّه أمر مشابه لموقف الولايات المتحدة في العراق عندما قاتلت القوات الأمريكية في نفس الجبهة مع قوات الحشد الشعبي، التي يتزعمها أشخاص قتلوا العديد من الجنود الأمريكيين منذ بضع سنوات. إنَّ مثل هذا “التنسيق” مع الروس الذين يقاتلون في المخيم نفسه مع حزب الله، هو المسؤول عن قتل مئات من مشاة البحرية الأمريكية.
وعلاوة على ذلك، لن يتم توسيع المسافة بين الأسد وروسيا من خلال هذه الطريقة الساذجة على كل حال. كما قال الأسد، على نحو صحيح في الواقع، إنَّ روسيا متواجدة في سوريا من أجل مصالحها الاستراتيجية.
إذا كان المقصود من اتفاق الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة هو قولبة تقارب الولايات المتحدة من موسكو في إطار تعاون كتكتيك لقطع الطريق على “المتشددين” الذين يحاولون إعادة “أشباح الحرب الباردة”، فهذه ستكون مسألة مختلفة. لماذا يجب أن يدفع الشعب السوري ثمن مثل هذه القضية التي لا علاقة لها بنضالهم من أجل الحرية؟
ميدل إيست بريفنج – إيوان24