على مدى السنوات الأربع الماضية، عاش العرب ورطة عبثية سيزيفية لا نهاية لها، وكابوساً غير متوقع بعد انتفاضتهم فيما أسموه “الربيع العربي”. وتم استنساخ سيناريو متشابه جداً في معظم بلدان الربيع العربي. وللأسف، تحولت الثورة المفعمة بالأمل إلى أعمال شبه حربية، ثم إلى نزاع أعقبته الحرب، كما لو أنه تم إقرار نظام إقليمي جديد لضمان عدم الاستقرار والفوضى العارمة في المنطقة. وقد آذن هذا النظام الإقليمي الجديد بملامح إقليمية جديدة ولاعبين جدد. ولعل الملمح الصادم أكثر ما يكون هو الذي تمثل في صعود لاعبين من غير الدول، وتعزيز تواجدهم ونفوذهم في عموم المنطقة، في تجاهل للحدود والمعادلات الاستراتيجية التي حكمت المنطقة طوال عقود.
اضطلع اللاعبون من غير الدول، وعلى نحو رئيسي الحركات الإسلامية، حماس وحزب الله والقاعدة، بدور محدود في حقبة ما قبل الربيع العربي. ومع ذلك، وقبل المضي إلى ما هو أبعد مع اللاعبين المشكلين حديثاً ودورهم في المنطقة، من الجدير تسليط الضوء على عدد من الحقائق التي تتعلق بالحركات الإسلامية.
أولاً؛ إن أي صفة أسندت إلى تلك الحركات، مثل الإسلام السياسي أو الإسلام المعتدل، هي مجرد مصطلحات وصفية، وليس لها علاقة بجوهر الإسلام كدين. فالإسلام هو دين شامل وجامع ويشكل شخصية واحدة، من دون الإشارة إلى آخرين، والتي قد تعطي انطباعاً زائفاً بأن هناك أنواعاً مختلفة من الإسلام (مثلاً، إسلام غير معتدل). وقد يحاجج المرء بأن هذه المسميات هي ببساطة مصطلحات “خلاقة” ابتكرت من أجل التفريق بين المجموعات الإسلامية المختلفة.
مثلاً، وجدت قوى غربية عديدة في “الإسلام المعتدل” مصطلحاً مقبولاً قد يبرر “التعامل” مع مجموعات محددة دون مجموعات أخرى، كما أن حدود كلمة “التعامل” يمكن أن تتفاوت ما بين اتصالات أساسية ومنتظمة، وبين تحالفات ومصالح وأجندات مشتركة. ومن جهة أخرى، لم تشعر عدة مجموعات بالاستياء من وصفها بأنها تنتمي إلى الإسلام المعتدل أو الإسلاميين السياسيين، طالما كان هذا يميزها عن مجموعات أخرى تبنت مساراً عنيفاً لتحقيق أهدافها. ومن شأن تمييزها بأنها “معتدلة” أن يمنحها نوعاً من الشرعية، ومن هنا المزيد من الحرية للعمل في مجتمعاتها لتحقيق أهدافها.
ربما يكون وصف هذه المجموعات بأنها (حركات ذات اتجاه إسلامي) مصطلحاً أكثر دقة. وفي الحقيقة، تتقاسم هذه المجموعات هدفاً واحداً وحيداً: عودة الحكم الإسلامي (إما كدولة أو تشريعات “الشريعة”). أما الفارق الوحيد بينها فهو عامل التوقيت الذي يحكم سلوكها واستراتيجياتها. فإذا سعت مجموعة إلى تحقيق أهدافها تدريجياً وعلى نحو بطيء، فإن سلوكها ونشاطاتها يتميزان بشكل رئيسي بالوسائل السلمية، أما إذا سعت المجموعة غلى تغيير فوري وسريع، فإن سياساتها وأفعالها تتميزان بوسائل راديكالية وعنيفة.
بالعودة إلى دور اللاعبين من غير الدول بشكل عام، فإن على المرء الاعتراف بأن دورهم أصبح أكبر بوضوح مع قدوم الثورات العربية، إلى درجة أنه فاق دور العديد من الأنظمة والحكومات في المنطقة. وفي الأثناء، بدأ هؤلاء اللاعبون بفرض سياسات وأجندات معينة على أنظمة إقليمية وعالمية، وأصبحوا يعتلون أجندة كل قمة إقليمية ومؤتمر دولي.
باختصار، قلب نجوم هؤلاء اللاعبين المنطقة بأكملها رأساً على عقب، كاسراً العديد من التابوهات ونافذاً إلى بلد بعد الآخر. وقد انتشرت النزعة التطهرية على نحو واسع في المنطقة، وأصبحت مفردات جديدة مثل “المرتدين” و”الكفار” و”الفاسقين” قيد التداول بشكل عام في المحادثات اليومية. واستطاع هؤلاء اللاعبون في زمن قياسي إلغاء الحدود السياسية التقليدية التي كانت قد رسمت في الأعوام المبكرة من القرن الماضي (سايكس-بيكو)، بينما احتاجت أفكار أخرى، مثل مفاهيم أو ظواهر العولمة، عقوداً حتى تجد طريقها إلى داخل المنطقة.
ينتشر هؤلاء اللاعبون وأتباعهم في عموم المنطقة، تحت أسماء مختلفة (مثل القاعدة، وجبهة النصرة، وداعش أو الدولة الإسلامية، أو الحوثييين أو غيرهم)، في شبه الجزيرة العربية والعراق وسورية وشمال إفريقيا. ولا يبدو أن هناك حدوداً لتمددهم، مما يعني إثبات أنهم يتوافرون على تنظيم متطور لا يعكس العدد المحدود لأعضائهم أو مجنديهم. وبكلمات أخرى، فإن عدد أعضائهم لا يمكن أن يعكس، بأي مفهوم، “الانجازات” التي استطاعوا تحقيقها في هذا الوقت القصير. ولعل العنصر الأكثر أهمية في هذه المعادلة الحديثة هي شبكتهم من الحلفاء المعروفين وغير المعروفين، الذين يقدمون لهم الإمدادات المالية واللوجستية والأسلحة بعيداً عن الضوء بشكل رئيسي.
تمثل الحالتان العراقية والسورية المثال الصادم أكثر ما يكون للمصالح والعلاقات المتداخلة من جانب، والتردد الإقليمي والدولي من جانب آخر. وقد اختارت بعض القوى الإقليمية المحافظة ورقة “دعم أو غض الطرف عن نشاطات وتحركات هؤلاء اللاعبين من غير الدول” كرهان أخير، خشية أن تفلت الأمور من عقالها على جبهات أخرى، ومن أجل إضعاف مجموعات أخرى (مثل حزب الله أو حزب العمال الكردستاني)، أو حتى من أجل إلحاق الضرر بنظام الأسد بشكل عام. وعلى نحو مشابه، تتجاهل العديد من القوى الغربية التي تصنف حزب الله على أنه منظمة إرهابية تدخله المباشر في سورية، بغية إضعاف كل تلك المجموعات (الأولاد الأشرار) في نزاع هدام أخذ منحى طائفياً.
تمكنت الولايات المتحدة من القفز واستغلال هذه الفرصة واستخدامها لإعادة ترويج أهمية دورها أمام حلفائها العرب، كـ”مزود” للأسلحة، و”كمستشار” يزودهم بالمعلومات والخبرة في قتال الإرهاب، و”كحامٍ” عبر ضربات الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة. وتشكل التقارير التي أظهرت تطور مبيعات الأسلحة الأميركية، للبلدان العربية بشكل رئيسي، مجرد مثال فحسب.
من جهة أخرى، تعي روسيا تماماً أن صفقة نووية مع إيران ستضر في نهاية المطاف وبالتأكيد باقتصادها (أي اتفاقية مع إيران ستفضي لعودة إيران كمزود نفط كبير، ما سيقود في نهاية المطاف إلى انخفاض أسعار النفط)، بالرغم من أنه ليس لديها أي خيار آخر سوى مباركة هذه الصفقة، مدركة أهمية شبكة علاقات إيران الإقليمية، وبشكل رئيسي مع اللاعبين من غير الدول.
على نحو مخادع، وبالرغم من الذعر وخيبة الأمل الإقليميين من وجود لاعبين من غير الدول ورفضهم لأي محادثات عن سايكس-بيكو جديدة، يدرك المرء أن الحقائق على أرض الواقع لا تذهب إلى أي مكان سوى تلك النهاية. ومنذ أن شنت الولايات المتحدة حملتها على “داعش”، استطاع التنظيم السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي في العراق وسورية، مقارنة مع تلك التي كانت تسيطر عليها قبل بدء الضربات. وشرع مقاتلو “داعش” في الظهور أكثر تجهيزاً وتدريباً، كما تحسن أداؤهم الإعلامي بشكل كبير. وقد شجعت النجاحات المتعاقبة التي حققها “داعش” آخرين، إما على السير على خطاه أو/ والانضمام إلى هذا “النموذج” الناجح. ونتيجة لذلك، لم تعد أي عاصمة عربية واحدة تتمتع بالحصانة الآن، خاصة في أعقاب ما يسمى “الربيع العربي“.
مع أن العديد من المحللين تساءلوا عن الظروف التي جلبت معظم هؤلاء اللاعبين وعن أهدافهم الفعلية، وبالرغم من حقيقة أن العديد من الاستقصاءات أظهرت ملامح تشكك في نشاطات هذه المجموعات، فإن المنطقة تبدو وأنها تنزلق عن غير قصد نحو نهايات غير حميدة.
في محاولة لتقييم تداعيات وتصرفات هؤلاء اللاعبين الصاعدين من غير الدول، قد يقول المرء إن تشويه صورة الإسلام كان ملمحاً واضحاً تماماً. ثانياً، بدا أن بعض هؤلاء اللاعبين، الذين درجوا على التمتع بالشعبية بين الجماهير العربية بسبب مقاومة إسرائيل، وأنهم يفقدون أرضيتهم في الشوارع العربية بعدما أصبحوا يرتبطون إما بالعنف، أو بالأجندات الطائفية. ثالثاً، نالت إسرائيل التي كانت معزولة في المنطقة لعقود، هبة فريدة من نوعها، وأصبحت تستطيع الدخول في الديناميات الإقليمية من خلال بوابة هؤلاء اللاعبين. وبعبارات أخرى فإن إسرائيل التي ظلت غير مخدوشة على هوامش الربيع العربي وانعكاساته، حققت مكاسب استراتيجية ثلاثية المستوى جراء نجوم أولئك اللاعبين.
لقد شرعت في نسج شبكة من العلاقات مع العديد من الأنظمة العربية التي تتشارك معها “نظرياً” في المخاوف العامة -وخاصة التهديد الشيعي المحتمل (المتمثل في إيران وحزب الله). والمستوى الثاني من مكاسب إسرائيل يتمثل بوضوح في إضعاف الدول العربية التقليدية. (مثلاً، العراق وسورية اللتين ظلتا تشكلان تهديداً ضخماً لصانعي القرار في إسرائيل). أما المستوى الثالث من المكاسب التي حققتها إسرائيل فيكمن في صرف الانتباه عن الموضوع المحوري للشرق الأوسط، وعلى نحو يسمح باستمرار آخر احتلال موجود في الكرة الأرضية، الاحتلال الإسرائيلي.
باختصار، تبدو المنطقة وأنها بحاجة ماسة إلى قائد حقيقي، إلى نوع من “صلاح الدين” الجديد الذي يستطيع وضع حد للبؤس والانقسام والشقاق الذي ضرب المنطقة، والذي يستطيع إيجاد حل لغياب مرجع ديني، وهو ما تسبب في كل هذا التأويل الفوضوي والمتشدد للإسلام.
مركز الشرق العربي – عبد الرحمن الحسيني