ستنفر الرئيس فلاديمير بوتين جميع أدواته الديبلوماسية والاستخباراتية والعسكرية بالضغط على طهران وحلفائها السوريين والتفاهم مع أنقرة وحلفائها السوريين لفرض «تسوية عسكرية – سياسية» في سورية في الأشهر المقبلة وعدم انتظار النسخة الرئاسية من دونالد ترامب التي قد تتضمن الرضوخ إلى «الدولة العميقة» في أميركا وما يعني ذلك من «عداء تقليدي» لروسيا.
بعد الاجتماعات بين وزراء الدفاع والخارجية لروسيا وتركيا وإيران في موسكو أول من أمس والاتفاق على «خريطة طريق» فيها عناصر سياسية وعسكرية والتوحد ضد تنظيمي «داعش» و «جبهة النصرة» والتزام القرار ٢٢٥٤ الذي تضمن وقف الدعم الخارجي لجميع المسلحين والميليشيات، يقوم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو باطلاع نظرائه العرب وربما المنسق العام لـ «الهيئة التفاوضية العليا» رياض حجاب في المؤتمر الوزاري لمنظمة التعاون الإسلامي في السعودية على نتائج الاجتماعات الثلاثية في العاصمة الروسية. كما وصل مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين جابري الأنصاري إلى دمشق للغرض نفسه.
بحسب فهم موسكو وأنقرة، فإن المقايضة بين استعادة مدينة حلب بدعم روسي وتوغل فصائل «درع الفرات» المدعومة من تركيا شمال المدينة ووصولها إلى مدينة الباب، فإن «معركة حلب هي آخر المعارك الكبرى» ولا بد «ما بعد حلب» من الجنوح إلى وقف القتال بعد تبادل التهجير والذهاب إلى المسار السياسي. كان هذا بمثابة كبح الجموح الإيراني الطامح بمزيد من التغيير الديموغرافي والوصول إلى البحر المتوسط عبر ممر عسكري من حلب إلى إدلب. لذلك، كان على بوتين التحدث بـ «لغة روسية» مع طهران سواء باتصاله الهاتفي مع نظيره الإيراني حسن روحاني أو لقاء ألكسندر لافرينييف مع علي شمخاني مسؤول التنسيق العسكري الروسي – الإيراني – السوري. مضمون الرسالة: توازي مسار العملية السياسية مع مكافحة الإرهاب وليس إعطاء الأولوية للعمل العسكري على السياسي.
ما يعزز هذه المقاربة، أن المحادثات السرية بين الجيش الروسي وممثلي فصائل سورية معارضة لا تزال قائمة في أنقرة وبرعاية الاستخبارات التركية، بحسب مصادر. هذه المحادثات ساهمت في «فك اشتباك» شرق حلب وتسهيل خروج المقاتلين والابتعاد عن «فتح الشام» (جبهة النصرة). لكن المهم، أن الجانب الروسي قدم ورقة سياسية وعسكرية إلى فصائل معارضة يجري درسها. وعلى الأرجح، هذه الورقة هي التي كان يتحدث عنها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو.
ويعتقد أن مبادئ الورقة تنطلق من الإقرار بمبدأ بقاء النظام السوري والبحث في كيفية انضواء الفصائل المعتدلة في الجيش النظامي أو التنسيق معه، إضافة إلى الابتعاد عن تنظيمي «داعش» و «جبهة النصرة» مع إمكانية تذخير السلاح لـ «توحيد البندقية» ضد الإرهابيين. هنا، لم تكن أنقرة مرتاحة أبداً لجهود بذلت لتوحد فصائل إسلامية مع «النصرة» بقيادة أبو محمد الجولاني، لذلك يجري حالياً البحث عن توحد بديل، يضم فصائل أخرى معتدلة وإسلامية هي أقرب إلى تركيا ليتم عزل «النصرة» وبعض المنشقين من فصائل أخرى. وكان لافتاً ما كتبه عضو مجلس شورى «أحرار الشام» كنان نحاس أمس من خطة لتوحد الفصائل وتشكيل «جيش التحرير». قائلاً: «يجب على إخواننا في فتح الشام حل تشكيلهم الذي كان وسيبقى فزاعة وسبباً للاستهداف من قبل أعدائنا، ونحن نعلم أن أعداءنا سيبحثون عن فزاعة أخرى بعدهم، ولسنا نطلب من فتح الشام أن تحل تشكيلها إرضاء للغرب، بل تخفيفاً عن الشعب».
نجحت أنقرة في فرض الفصائل المسلحة محاوراً للجيش الروسي. ورسالة جاويش أوغلو إلى نظرائه العرب وحجاب في الساعات المقبلة أنه أقنع نظيره الروسي سيرغي لافروف بأن تكون «المعارضة السياسية الحقيقية» محاوراً في البحث عن حل سياسي سواء في الجلسات التي ستعقد في الأستانة ربما في النصف الثاني من كانون الثاني (يناير) المقبل أو تلك اللاحقة التي يسعى إلى عقدها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في جنيف في ٨ شباط (فبراير) المقبل.
وإذ أبدت الحكومة الكازاخستانية نيتها استضافة حوار سوري – سوري، فإن دي ميستورا، الذي لا يريد أن تكون الأستانة منصة بديلة من جنيف ولا «إعلان موسكو» مرجعية بديلة من القرار ٢٢٥٤، أبلغ الأطراف المعنية أنه «يعمل في شكل مكثف من أجل الدعوة لعقد مفاوضات رسمية سورية – سورية بحسب 2254 وسيتشاور مع الأطراف وطيف واسع من الشركاء السوريين ودول المنطقة والمجتمع الدولي للإعداد الجيد لهذه المفاوضات». رهان دي ميستورا، أن يشكل حوار الأستانة ومؤتمر يسعى إليه معارضون آخرون بينهم هيثم مناع، إلى توحيد أو فرز المعارضة باتجاه تفاوض جديد مع دمشق.
الواضح من تصريحات لافروف أول من أمس هو النأي بالنفس عن العمل مع الإدارة الأميركية في المدى المنظور. وكان هذا مزعجاً لواشنطن. إذ قال الناطق باسم الخارجية الأميركية جون كيربي: «ليس قلقاً من ماهية المكان الذي ستجرى فيه المشاورات، بل، بالدرجة الأولى، من ضرورة إقناع حكومة دمشق ومعارضيها بالجلوس حول طاولة المفاوضات. ولا نزال مقتنعين بأن هذا الأمر يجب تطبيقه تحت إشراف أممي، وإن دي ميستورا وفريقه هم الوسطاء المناسبون لإدارة هذه المشاورات».
موسكو، التي نجحت بعد التدخل العسكري المباشر نهاية العام الماضي باعتماد مرجعية القرار ٢٢٥٤ الذي يتحدث عن «حكم تمثيلي» بدل «بيان جنيف» الذي تحدث عن «هيئة انتقالية»، قررت الاعتماد على «الفاعلين الفعليين في سورية» للعمل على مرجعية جديدة. تلقف خبراء دوليون مربوطون بالقرار الدولي، وطرحوا مبادرة غير معلنة، مفادها: «الرئيس بشار الأسد باق حالياً. النظام باق. والأولوية هي لإطلاق عملية سياسية تجري إصلاحات عسكرية لاستعادة متدرجة للأراضي ومناطق النفوذ السورية وسياسية متدرجة لا تهدد استقرار النظام ومحاربة الإرهاب». وأقصى ما وافق عليه الجانب الإيراني إلى الآن، هو «تشكيل حكومة وحدة وطنية مع الموافقة على التخلي للمعارضة عن حقيبة سيادية واحدة، لن تكون وزارة الدفاع بينها، مع الموافقة على تخلي الرئيس الأسد عن بعض صلاحياته إلى رئيس الوزراء»، فيما تذهب موسكو إلى حافة تشكيل حكومة مشتركة تمهد لإصلاحات دستورية وانتخابات رئاسية وبرلمانية أو تعيين الأسد خمسة أو ثلاثة نواب من الموالين والمعارضين والمستقلين… وإقناع الأسد للاستعداد لـ «تحول» بعد آذار (مارس) المقبل.
«جبهة ديبلوماسية»
وإلى العمل مع أنقرة وطهران والعمليات العسكرية في سورية، تخوض موسكو في «الجبهة الديبلوماسية». وبعد نجاحها في إدخال تعديلات على المشروع الفرنسي لنشر مراقبين في حلب وصدور القرار ٢٣٢٨ بإجماع الدول الأعضاء في مجلس الأمن، لاحظت انتقاد طهران هذا القرار وقبوله على مضض من دمشق التي أقنعت بالموافقة على إرسال موظفين دوليين إلى حلب. لذلك، فإن المندوب الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين بعث برسالة إلى رئيس مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون.
وبحسب الرسالة، التي حصلت «الحياة» على نصها، أكد تشوركين الأسباب التي دعت إلى الموافقة على القرار، مشدداً على ضرورة «مهنية تنفيذ القرار وعدم تسييسه» وضمان «التنسيق الفعال مع حكومة الجمهورية العربية السورية». وأكد أنه لدى نشر المراقبين الدوليين «بما في ذلك الترتيبات الأمنية، لا بد من التشاور الضروري والتنسيق مع الأطراف المعنية وخصوصاً الحكومة السورية بحسب الفقرة ٧ من القرار»، في محاولة لفرض «شرعية» إضافية للنظام مع الدول الغربية المنخرطة في العمل الإنساني. ودعا تشوركين الأمم المتحدة أيضاً إلى توزيع المساعدات الإنسانية في حلب «في شكل عادل» مع ضرورة البناء على الموجود من مشاركة الصليب الأحمر الدولي والهلال الأحمر السوري والأمم المتحدة. وكان لافتاً أن الرسالة نصت: «لا يستبعد بعد اكتمال المرحلة الأساسية من الإجلاء الطوعي أن تكون هناك حاجة لإجلاء مزيد من الأشخاص ما يتطلب موارد إضافية لتنفيذ ذلك». وقال ديبلوماسي غربي إن موسكو أرادت بهذه الرسالة طمأنة حلفائها في طهران ودمشق من جهة و «انسحاباً ما» من تنفيذه بحسب أولويات خصومها من جهة أخرى، لافتاً إلى أنه لا تزال لدى واشنطن أوراق تمنع تهميشاً روسياً لها، إضافة إلى تلويح أوروبي – عربي بورقة ربط إعادة الإعمار في سورية بـ «الانتقال السياسي».
الحياة اللندنية