أحدثت الأزمة الخليجية انقساما وتباينا في مواقف الدول العربية والأجنبية فبينما اصطفت بعضها إلى جانب قطر، ومن بينها تركيا، وأعربت عن تضامنها معها، دعت أخرى إلى تغليب لغة الحوار من أجل التوصل إلى حلول للخلافات، في حين سارعت دول أخرى كالمالديف وموريتانيا إلى تبني الموقف السعودي الإماراتي، إما بمقاطعة قطر أو بخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي لديها.
وبعد زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الرياض، في أول زيارة خارجية له منذ توليه الرئاسة، اندلعت الأزمة الدبلوماسية بشأن سياسات شبه الجزيرة القطرية، التي طالما اتسمت بهدوئها واستقرارها.
وفي حين كشف التحرك السعودي الأخير ضد قطر عن تغيرات كبيرة بتوازن القوى في دول مجلس التعاون الخليجي، ظلت موسكو تراقب عن كثب تداعيات الأزمة على الدور الذي تلعبه في المنطقة، لاسيما بما يتعلق بسوريا وإيران، آخذة بعين الاعتبار علاقاتها السياسية الهشة مع الخليج.
ويمكن القول أن أول علامات التغيرات التي طرأت على العلاقات السعودية القطرية، جاءت على خلفية زيارة ترامب إلى الرياض ودعمه القوي للملك السعودي المستقبلي، محمد بن سلمان.
من جانبها، شعرت موسكو بالتهديد جراء التطورات الديناميكية المتسارعة وتداعيات تلك التغيرات على وجودها المتنامي في الشرق الأوسط، لاسيما خلال العامين الماضيين.
وتعتبر موسكو عادةً الدماثة الدبلوماسية أداة هامة للحفاظ على علاقات جيدة مع الشركاء، إلا أن رد فعلها والتزامها الصمت على موقف الرياض ضد قطر كان مثيرًا للدهشة.
وبما أن الصمت يكون أحيانًا أكثر فصاحة من الكلمات، فهو بهذه الحالة دليلا صريحا بأن روسيا تلتزم سياسة شديدة الحذر تجاه الموقف الخليجي الأخير ضد قطر.
وتضمنت مواقف موسكو الأخيرة دعم غير مباشر للدوحة في أزمتها الدبلوماسية والعزلة التي فرضت عليها، وهذا ما ظهر جليا في كثافة الاتصالات المدهشة بين المسؤولين الروس والقطريين.
ومؤخرًا، ومن منظور روسي، نشرت صحيفة “أوترا. ري” الروسية تقريرًا ضم آراء محللين روس كتبه الخبير بالشرق الأوسط يوري بارمين، سلطت من خلاله الضوء على دور موسكو المحتمل في الأزمة الخليجية الجارية.
وفي معرض هذا التقرير، ترى الإستراتيجية والخبيرة في مجال الشؤون الدولية، إيلينا سوبونينا، أن موسكو ترغب في التدخل في الأزمة الخليجية، والمشاركة في تهدئة الأوضاع بطرق أكثر أمنًا وأقل إضرارًا بمصالحها في المنطقة وذلك لسببين، بحسب الصحيفة نفسها.
ويكمن السبب الأول في أن قطر متداخلة في صفقة خصخصة شركة “روسنفت” (أكبر شركة انتاج نفط بروسيا)، لذلك فإن أي تغيير قد يطرأ على مكانة قطر في الساحة السياسية العالمية من شأنه أن يلقي بظلاله على صفقة “روسنفت”.
وفقًا لما أكده مدير مركز الدراسات التحليلية في جامعة الاقتصاد، بافل سالين، فإن شركة “روسنفت”، التي تعتبر من أضخم الشركات الروسية، قد كشفت عن عمق العلاقات التجارية بين قطر وروسيا، وبناءً عليه، يتحتم على الشريكين التصرف إزاء الصراع الخليجي لحماية مصالحهما.
وأضافت الصحيفة أن السبب الثاني الذي يدفع موسكو إلى التدخل في الصراع الخليجي يتمثل في رغبتها في استعادة أدوات التأثير على الساحة السياسية العالمية.
ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي، قبل أكثر من ربع قرن، فقدت روسيا كل أدواتها المتاحة للتأثير، لهذا تحاول موسكو في الوقت الراهن استعادة مكانتها الفاعلة.
الاستراتيجية التي اتبعتها السعودية والإمارات لعزل قطر، أثارت ارتياب الكرملين الذي فسرها بأنها محاولة لتغيير توازن القوى الإقليمية.
وبالنسبة لقطر فإنها قوية بما فيه الكفاية لتمارس سياسة خارجية مستقلة وبالتالي قادرة على كبح جماح جيرانها في المنطقة.
إلا أن هذا يتناقض مع صعود محمد بن سلمان للسلطة في السعودية مؤخرًا باعتباره يمثل الجيل القادم للزعماء السعوديين، حيث يطمح في تعزيز دعم سياسته في مواجهة إيران وفرض وصاية على دول مجلس التعاون الخليجي، بحسب تحليل الصحيفة الروسية.
روسيا ترى مصلحة في الحفاظ على التوازن الحالي لدول مجلس التعاون الخليجي، ومنع ظهور قطب واحد ذي نفوذ ، الأمر الذي من شأنه أن يجعل المجلس أقوى مما لا يمكن التنبؤ به.
وبالنظر لموقف ترامب الداعم لعزلة قطر، فإن روسيا تعتبره فرصة فريدة من نوعها لتمديد المساعدة للدولة التي أصبحت منبوذة من الأمريكيين، وهذا يتماشى مع سياسة بوتين الرامية للوصول إلى الدول التي لا تحظى بدعم واشنطن، وبالتالي الاستفادة منها بما يخدم المصالح الروسية.
وبالنسبة لموقفها من السعودية، فلم تفهم موسكو تمامًا بعد ماذا يعني بالنسبة لها صعود محمد بن سلمان للسلطة، ومنذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز إلى العرش في السعودية وتعيين ابنه وزيرا للدفاع ونائبا لولي العهد وقتها، ظل محمد بن سلمان مسؤولا عن ملف روسيا في المملكة، وكان له دور فعال في الارتقاء بحالة العلاقات بين البلدين.
وفي عهده، أبرمت روسيا والسعودية صفقة حاسمة لخفض إنتاج النفط على أمل إنهاء الفوضى النفطية العالمية التي أثرت بشدة على اقتصادات البلدين.
وخلال زيارة محمد بن سلمان الأولى لروسيا في حزيران / يونيو 2015، وقعت موسكو والرياض مجموعة من الاتفاقات، منها اتفاق بشأن التعاون في مجال الطاقة النووية، فضلا عن صفقة استثمارية بقيمة 10 مليارات دولار، تهدف جميعها إلى تحقيق انفراجة في العلاقات الثنائية.
وعلاوة على ذلك، شملت كل جولة قام بها محمد بن سلمان إلى روسيا مناقشة إبرام صفقات أسلحة، وكان لذلك تأثير كبير لدى الكرملين الذي يطمح بتوسيع محفظة عملائه في الخليج.
وبناءً عليه يمكن القول بصورة عامة أن تولي محمد بن سلمان منصبه أعطى دفعة ضرورية للعلاقات الثنائية بين الرياض وموسكو، إلا أنه لم يلاحظ ظهور أي تحالف بينهما بسبب الخلافات السياسية القائمة خصوصا في ما يتعلق بالمسالة السورية.
والقلق الذي يخيم على روسيا هو أن يلجأ محمد بن سلمان بشكل متزايد إلى الخيارات العسكرية على غرار ما حدث في اليمن، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على نفوذ روسيا في سوريا وانتشار نفوذها في الشرق الأوسط ككل.
وبغض النظر عن ازدواجية موقف الكرملين تجاه محمد بن سلمان، إلا أنه يمكننا أن نقول أن الأخير أفضل بالنسبة لموسكو من ابن عمه محمد بن نايف، الذي كان حليفًا قويًا للولايات المتحدة، وتاريخيًا كان غير متفاعل مع روسيا ولم يتخل أبدا عن انتقاد سياسة الكرملين تجاه الشرق الأوسط، وفقا لتقرير الخبير يوري بارمين المنشور بالصحيفة الروسية.
الاناضول