مأساة خان شيخون هي الحدث الأبرز خلال الثماني والأربعين الساعة الماضية, وهي الشغل الشاغل والموضوع الأهم الذي تداعت له قنوات العالم الإعلامية والسياسية والدبلوماسية, فالخطوط الحمراء التي كنا نسمع بها من قبل أصبحت وهماً من الماضي والنظام يعود من جديد لتحدي السوريين والعالم بارتكابه مجزرة الكيماوي عن سابق الإصرار والتصميم.
ولكننا نعود مرة أخرى لتمييع القضية من جديد والتخفيف من حجم المأساة, وذلك من خلال تبني سياسة الشك في الجهة المنفذة لها, فعندما تعود المصادر الدبلوماسية الناطقة باسم الحكومات الغربية للقول بأن “الهجمات الكيماوية تحمل بصمات النظام” فإننا نقف مرة جديدة أمام توجيه أصابع الاتهام للنظام دون الإدانة رغم أن الأدلة والمعطيات الموجودة على الأرض تظهر مسئوولية النظام بارتكاب الهجمات ضد المدنيين في خان شيخون وبمعرفة روسية مسبقة..
الوقائع على الأرض:
فريق الملاحة الجوية الروسي الموجود في قاعدة حميميم هو على دراية تامة بحركة ومسار جميع الطائرات المحلقة في الأجواء السورية, ويمتلك مجموعة للرصد الجوية ومتابعة حركة الطائرات, وبالتالي هو يعلم مسار أي طائرة تابعة للنظام السوري ووجهتها وأهدافها التي ستقوم بقصفها بل ينسق مع غرف العمليات الجوية في المطارات التابعة للنظام في السين والتيفور والضمير وحماة وغيرها من المطارات..
وقد أكدت شبكات الرصد اللاسلكية التابعة للثوار والمنتشرة في المناطق المحررة والمعروفة محليا باسم “المراصد” إقلاع طائرة حربية من نوع سوخوي22 ورمزها العسكري قدس1 وقيامها بقصف المنازل السكنية في مدينة خان شيخون في تمام الساعة 6:45ص بغازات سامة تحتوي على غاز يعتقد أنه غاز السارين القاتل, ثم عقب المجزرة قامت طائرة حربية روسية باستهداف مشفى الرحمة في مدينة خان شيخون وهو المشفى الذي قام باستقبال الاعداد الكبيرة من المصابين جراء استنشاق الغاز القاتل ما أدى إلى خروج المشفى عن الخدمة بشكل كامل, وقد سبق هذا الاستهداف بعدة أيام قيام الطائرات الروسية باستهداف مشافي أخرى في ريف إدلب الجنوبي أهمها المشفى الوطني في معرة النعمان..
الروايات المركبة:
وعلى الفور سارع الإعلام التابع للنظام بنفي الخبر واتهام المعارضة بتركيب صور وهمية لأطفال يتعرضون للاختناق بهدف اتهام النظام بمجزرة كيماوية مفبركة في صورة لا تعبر إلا عن الانحطاط الأخلاقي الكبير لهذا الإعلام المفلس, ثم تغيرت الرواية ليدعي عدد من “الأبواق” الإعلامية المحسوبين على النظام أن مصنعاً للذخائر الكيماوية تابع “للإرهابيين” انفجر في مدينة خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي ما أدى لمقتل عدد من الآرهابيين والأطفال, في دمج غريب لاسمين متباعدين!!
إلا أن روسيا التي تدرك حجم تفاهة الرواية الرسمية لقوات النظام وأجهزته الإعلامية عادت لتجمل المشهد براوية أكثر تنميقاً عندما اعترفت وزارة الدفاع الروسية بقيام الطائرات الحربية التابعة للنظام السوري باستهداف مستودعات للأسلحة الكيماوية في مدينة خان شيخون ما أسفر عن مقتل عدد من المدنيين الأبرياء..
التحدي من جديد:
تغير الرواية وتضاربها عند كل من السوريين والروس يكشف عن مدى شعورهما بحراجة الموقف وضعف الحجة, فقد تبدلت الرواية من صيغة الانكار لصيغة الاتهام وصولاً بالاعتراف, وهذا بديهي فالروس يعرفون جيداً الوقائع على الأرض وخصوصاً أنهم قاموا بإكمال فصول الجريمة بقصف المشفى, وإن لم يكونوا كذلك فلماذا قاموا بقصف المشفى؟!
المنطقة المستهدفة هي منطقة سكنية بامتياز ولا تحتوي إلا على البيوت السكنية التي يقطنها المدنيون والدليل على ذلك هي أسماء الضحايا الموثقين بالاسم ومعظمهم من النساء والأطفال.
تشير الأعراض الظاهرة على المصابين بأن الغاز المستخدم هو غاز السارين القاتل, وهو لايتوفر إلا عند قوات النظام التي لم تسلم ما بحوزتها من سلاح كيماوي.
لماذا وفر هؤلاء “الإرهابيين” كل هذا الحجم من الترسانة الكيماوية ولم يستخدموها ضد النظام وقواته والمدنيين الساكنين في المناطق الخاضعة لسلطته حتى الآن كما يدعي النظام؟!
هناك العديد من الصور والفيديوهات التي تظهر لحظة الاستهداف ولا يوجد سوى بقايا للقنبلة التي ألقتها الطائرات في حين تبخر المستودع المزعزم حسب وزارة الدفاع الروسية واختفى عن الوجود!!
لا نحتاج للبراهين ولكن التخاذل عن ردع المجرم أجبرنا على طرحها:
سبق للنظام وأن استهدف المدنيين في الغوطة الشرقية لدمشق بالسلاح الكيماوي قبل اربعة أعوام, وتخطى الخط الأحمر الذي رسمه له بعض الساسة الدوليين دون عقاب وحساب على الجريمة, وبحماية دبلوماسية من الدولتين المشاركتين في الجرائم روسيا والصين من خلال تعطيل أي مسودة قرار تدين النظام وتضعه تحت الحساب والمساءلة, إضافة للمواقف المخجلة من قبل الدول الأخرى التي تدعي صداقة الشعب السوري التي اكتفت بالأقوال دون الأفعال, كل ذلك ساهم في تمادي النظام من جديد وخصوصاُ بعد الرسائل الدبلوماسية الاخيرة من قبل المتحدثين باسم وزارة الخارجية الأمريكية والموجهة للنظام بتغيير الموقف السابق وجعل الإطاحة بالأسد هي مسألة ثانوية وأنه واقع مفروض, لذلك وجد النظام نفسه منفلت تماماً من كل القوانين الدولية فأقدم على جريمته البشعة في مدينة خان شيخون قولاً واحد من دون أن نعود لنناقش الوقائع الميدانية ومسألة الشكوك بالطرف الجاني, فالحقيقة واحدة النظام يعاود قصف المدنيين بالسلاح الكيماوي.
المعضلة الأكبر هي العودة من جديد لطريق مجلس الأمن الطويل والمسدود والمحكوم مسبقاً بالرفض الروسي العلني, فروسيا هي دولة داعمة لنظام الأسد ومتورطة معه في الجرائم لذلك ستقف ضد جميع محاولات استصدار أي قرار من شأنه حشر النظام في الزاوية ومحاسبته, ثم إن جميع التصريحات الروسية المشيرة إلى استمرار نية موسكو دعم الأسد عسكرياً تنهي جميع الآمال التي تنصب على تراجع للموقف الروسي في مجلس الأمن لضعف الحجة, فروسيا هي دولة مارقة الآن ولا تتعامل بأساليب الحجج والقرائن..
والمشكلة الأكثر تعقيداً هي غياب أي رغبة دولية حقيقية بالتوجه لأعمال أحادية الجانب من شأنها ردع النظام السوري خارج قوانين الأمم المتحدة, وإن أفلت النظام من هذه العقوبة مجدداً فالشعب السوري سيكون أمام سيناريو بالغ السوء في المستقبل..
المركز الصحفي السوري-حازم الحلبي.