الشيء الجميل الذي ميّز الثورة السورية عن غيرها أنها قامت على أيدي أطفال استطاعوا ببراءتهم كسر حاجز الخوف في قلوب الملايين، خمسة أعوام مرّت عليها، شهدت مقتل الآلاف ونزوح الملايين وانهيار في الاقتصاد والبنى التحتية.
ومع تزايد المآسي والألام وارتفاع عدد الضحايا، يتحول السوريين تدريجيا لمجرد أرقام وأّلقت الحرب بظلالها ع المدنيين العزل، فكان نصيب الأطفال الأكبر من المشاهد اليومية المروعة بحق عوائلهم، وولدت الحرب في نفوسهم مشاكلا صعبة لن تفارقهم حتى مع انتهاء الحرب.
قصي ابن مدينة حمص، البالغ من العمر 15 سنة عاش الحرب بكل تفاصيلها، مشاهدٌ رسخت بمخيلته لن ينساها أبدا، رأى أمامه كيف أن النظام أعاد إليه والده بكيسٍ أسود، لم يعرفوا منه غير الأشلاء، شاهد الدمار و عاش النزوح، عرف طعم الموت الذي أحاط به وبأمه وإخوته عدة مرات، لينجو منه بأعجوبة.
لم يكن ذنب قصي ولا إخوته غير أن والدهم كان مقاتلاً في الجبهات، ليعود إليهم ذات يوم بجسدٍ محروق مشوه، ” فقنا الصبح قلتلو بابا لا تطلع اليوم أنا خايف عليك، رد علي وقلي يا ابني إذا أنا ضليت بالبيت وعمك وخالك والجيران مين رح يوقف هل طيران وفتح الباب وراح”.
يسترجع قصي تفاصيل الحكاية بكل دقة ما بين الحنين والشوق والأمل الذي ارتسم ع وجهه:” أنا صح زعلت ع بابا، بس اليوم أنا بحس حالي قوي كتير لازم أدرس وساعد أخواتي لنكمل مشوارنا، بابا تركنا صح لحالنا بهل حياة بس حط فينا أمل نرجع ونعمرك يا سوريا”.
أم قصي حالها كحال مئات السوريين الذين هجّروا من ديارهم تحت وطأة القصف الهمجي لتريح أطفالها قليلاً من القساوة التي عاشتها حمص، انتقلت بهم إلى ادلب لتعيدهم إلى المدارس ولتكافح وتناضل لإكمال مسيرة ونهج والدهم .
بدأت بشغل الخياطة و إعادة تدوير الملابس المستعملة حتى لقت شهرة بالحي القاطنة به، وعاد هذا العمل عليها أرباحا تسدّ بها رمق العيش، تعمل ليل نهار على آلة للخياطة أعطتها إياها إحدى الجمعيات الخيرية، أم قصي ماهي إلا مثالٌ صغير يعكس المشاهد اليومية التي تعيشها نساء فقدن أزواجهن وأصبحوا المعيل الوحيد للعائلة.
تحتضن أم قصي أطفالها ودموع الحزن تمتزج بأمل من الله أن يسلم لها أطفالها ويساعدها على تربيتهم وإكمال دراستهم.
أما قصي الذي أمسك بيد إخوته بمشهد لن تصفه كل العبارات ليقول ” أنا هون .. انا سندكن بهل حياة .. راح بابا بس ترك رجال .. رح نقاوم وندرس لنعيد لسوريا ولكل أطفال العالم البسمة يلي نحرمناها”.
أطفال سوريا رجال كبروا قبل الأوان، لتجد كل واحد منهم تحمل مسؤولية في سنٍ مبكر، ولأن هذا الجيل الذي تعامل مع الموت والحرب والتغيرات لن يكن قادرا على نسيان ما حدث بهذه السهولة.
فهل يا ترى سنجد فيما بعد جيلاً تجاوز كل المحن وقادرا على إعادة هيكلة البلد؟ أم أننا سنجد أطفالا ضاعوا مع ضياع طفولتهم.
المركز الصحفي السوري- رشا مرهف