روي أن عامل حمص ( محافظ) كتب إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز يستأذنه في تسوير المدينة فأجابه : ” سورها بالعدل”.
العدل إحساس يبعث على الارتياح في النفس لكل ما يدفع الجور ويزيل الشعور بالظلم، ويتحقق بالمساواة، و المساواة تنصيف الشيء إلى نصفين .
يتساويان إذا وقع فيهما التنصيف بحيث لا يزيد أحد النصفين عن الآخر ولا ينقص، ولذلك قال فقهاء المسلمين: إن العدل هو الإنصاف ، أي تنصيف المتساوي، وقالوا: إنه التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وقالوا: إنه المساواة في كل شيء من غرؤ زيادة ولا نقصان.
ويتفق تعريف العدل في الشريعة الإسلامية وتعريفه في الشرائع الأخرى وهو أن العدل يقوم على المساواة المحكمة و قد اتخذ الميزان رمزا له يتحقق بتساوي كفتيه، فإن خلت كفتاه تسبب بالجور والظلم، وقد أشار القرآن لذلك بطلبه إقامة القسط والدقة في الوزن .
ويتحقق العدل بالقاعدة القانونية الملزمة التي تقررها السلطة الحاكمة وتختلف هذه السلطة باختلاف التفكير المثالي (الإيدلوجي) للأمة، إما أن يقررها الشعب الممثل بنوابه في النظام الديمقراطي أو تقرها الدولة الممثلة بفرد أو حزب في النظام الاستبدادي، أو يقررها الله في دينه، فهي إذن إما تصدر عن خالق أو مخلوق، والفرق بين القانون البشري والإلهي أن الأول يتأثر بمصالح البشر وأهوائهم، فلا يخلو من ظلم أو جور، أما القانون الإلهي، فهو قانون عادل، والله يقول” إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون”.
وعقوبته التي يقررها أو يتوعد به الظالم جزاء يتناسب مع ظلمه، ولهذا عرف الإمام الكبير العالم فخر الدين الرازي العدل بأنه: القدر الواجب من الخير.
منذ وجد الإنسان في الجماعات القديمة حتى الآن نراه متعطشا للعدل، فقد كان يعاني ظلم القوي ثم أخذ يعاني ظلم الفئة الحاكمة وأهوائها، وإن أعدل القوانين القديمة كقانون حامورابي البابلي وقانون الألواح الروماني كانت تفرق بين طبقات الناس في توزيع العدل ومعها قوانين القرون الوسطى ولاتخلو أكثر القوانين المعاصرة من استئثار الطبقة الحاكمة بالمنافع والمصالح.
وهذا دفع لأحد تيارين : فكري وثوري.
فالفكري يوضع في معايير للمشرع الذي يجب أن يناط به إصدار القوانين وذهب بعضها إلى أن المشرع هو الحكيم، فيما يرى آخرون أن الأغلبية العددية في الأمة هم أصحاب الحق في التشريع.
أما التيار الثوري فإننا نجده في تلك الثورات التي يحدثنا التاريخ عن بعضها حتى قيل إن التاريخ سجل صراعا بين العدل والظلم يرمي لتبديل المجتمع الذي تسنده قوانين جائرة وهو صراع مستديم يزيد المنتصر
في ظلمه أو ينقلب إلى ظالم، ويبقى القانون الجانب الأقوى لأن القوة لا يمكن أن تلهم العدل .
وينتج عن ذلك أمرين: أن يستسلم الجانب الضعيف وفد يكون هو الأغلبية
الكبيرة و يقبل قانون القوي أو أن يتربص بالقوي ويتحين الفرصة للثورة عليه.
الاستسلام يسلب الأمة كرامتها وعزتها ويشيع فيها التزلف والنفاق ابتغاء
مرضاة الحاكم والثورة من شأنها أن تشغل الأمة بالدسائس عن العمل المنتج، وتغمرها بلا شك بالقلق النفسي والاضطراب الداخلي الذي يشل نشاطها.
ويفتح فيها ثغرة لعدو خارجي يتربص بها الداوئر ويثير فيها الفتن ويسخرها لمصالحه وأهوائه، وفي الماضي والحاضر أنماط من ذلك.
إذن مفهوم العدل في النظم البشرية يقوم على القوة وهو مختلف عن العدل في الشريعة الإسلامية ويرجع ذلك إلى الاختلاف في معيار القوة.
ومن المسلم به أن القوة ظهير الحق والانسان من طبعه الاستئثار فإذا ترك لطبعه فلا ينصاع للحق ولا يسلم به إلا إذا أكره عليه، ومعيار القوة في النظريات والمذاهب الغربية هو القوة المادية التي يبتدعها العقل الإنساني .
والإنسان في مفهوم تلك النظريات والمذاهب من خلق الطبيعة وهي قدرة صماء مجردة عن الإدراك وكبح جماح الأهواء والشهوات.
من أجل ذلك بقي العقل هو وحده المتسلط، تتقاذفه الإهواء بما يشتهي
وأصبح الحكماء يقيدون سلطان العقل، وبقيت القوة هي معيار الصيل في تسوية كل نزاع بالقهر أو بالإكراه.
فأصبح العدل رمزا للإحساس بالمكبوت وأملا حلوا يتردد صداه على لهوات الشعراء و ينعكس في خيالات الفلاسفة وآراء المفكرين.
أما الإسلام ..
فقد جعل معيار القوة الإيمان بقدرة الله لا بقدرة الإنسان وجعل العقل كاشفا لهذه القدرة، فالإيمان بقدرة الله هو ظهير العدل وبه يتساوى الحاكم والمحكوم في الخضوع لها وبذلك تزول فوارق القوة بجميع مظارهرها المادية والمعنوية وتكون عونا صادقا ونزيها للعدل في حماية الحق والقيام بالواجب.
فالإيمان إذن هو خضوع مطلق لقدرة الله ومراقبته يلازم القلب والعقل
ويشحذ الإحساس بالعدل عند الحاكم والمحكوم .
تبرز أهمية الإيمان بقدرة الله كأنها أساس يقوم على مفهوم العدل في الشريعة الإسلامية وهو معيار داخلي كامن في النفس مستقر فيها، يقوم على اعتبار الإنسان جزءا من الكون ضمنت له حريته وحياته .
من هذا المنطلق اختلف مفهوم السلطة في الإسلام عن مفهومها في المذاهب والنظريات، فمفهوم السلطة في الإسلام مستمدة من الإيمان ونظرية الحكم في الإسلام تقوم على اعتباره تكليف يجب أن يتحمله أشد الناس إيمانا وخشوعا لله، لذلك روي أن عمر بن الخطاب قال لأبي مريم الحنفي وكان قتل زيدا بن الخطاب أخا عمر في حرب بني حنيفة المرتدين سنة 11 للهجرة: والله لا يحيك قلبي أبدا حتى تحب الأرض الدم”، فقال أبو مريم يا أمير المؤمنين هل تمنعني حقا لذلك؟ قال : لا. قال: إذن فحسبي .
إذن الحكم في الإسلام ليس ديكتاتوريا يستقل به فرد أو مجموعة من الأفراد وليس ديمقراطيا خالصا بمعنى أن الأغلبية تقرر ما شاء، و إنما هو نمط فريد مستمد من طبيعة سلوك مفروض على الحاكم والمحكوم.
لأجل ذلك لا يمكن التفريق بين حقوق الحكام والمحكومين إلا بتوزيع السلطة .
وكما أن الإيمان يقضي أن يعدل الإنسان مع غيره فإنه يقضي بأن يعدل مع نفسه وأن يحافظ على حياته بالحفاظ على بدنه فيمده بكل القوة فلا يرهقه ولا يضره .
المركز الصحفي السوري _ محمد إسماعيل