ثلاث مفارقات يمكن التوقف عندها اليوم في قراءة واقع المعارضة السياسية وما تعانيه من قصور في ممارسة دورها المفترض أمام التطورات الميدانية المتسارعة في المشهد السوري.
أولاً، بينما تستعر المعارك على أشدها في الجنوب والشمال السوريين، لا تزال أطياف من المعارضة السياسية تهتم بعقد المؤتمرات، وآخرهما في مصر وتركيا! وكأن ما يجري لا يعنيها، وكأن ما تم عقده من مؤتمرات خلال السنوات المنصرمة لم يكن كافياً، فكيف الحال حين يبدو غرض هذه المؤتمرات إعادة تقاسم الحصص والمواقع، طالما لا تضيف قراراتها جديداً من حيث الجوهر الى المواقف السياسية المعلنة للمعارضة في وثيقتي القاهرة في 2012، وطالما تكرر الالتزام بخيار الحل السياسي وفق بيان “جنيف 1” وقيادة مرحلة انتقالية تؤسس لدولة المواطنة الديموقراطية.
ولكن على من تعول المعارضة السورية في تحريك عجلة الحل السياسي؟! هل على ضعفها وتشتتها وانفلات القتال على مختلف الجبهات؟! أم على تشدد النظام سياسياً وإعلانه خطوطاً حمراً للتفاوض لا يمكن المساس بها تتمثل بالدستور ورئاسة الجمهورية والجيش وأجهزة الأمن؟! أم على تقدم تنظيم داعش وتبلور الطابع الإيديولوجي الاسلاموي لمختلف الجماعات المسلحة التي لن ترضى بغير شرع الله حاكماً؟! أم على استمرار تضارب مصالح الأطراف الإقليمية والعالمية المؤثرة في الصراع السوري وتالياً عجز المجتمع الدولي عن خلق إرادة حازمة تضع حداً لهذه المأساة؟!
للأسف يكرر بعض قادة المعارضة فكرة تقول بأن أي صراع مسلح أو قتال أهلي لن يخمدا إلا بحل سياسي، ويعتقدون بأنهم كمعارضين سياسيين أصحاب الحق في هذه النقلة، وما عليهم سوى الانتظار وترتيب أنفسهم وتأكيد حضورهم في المناورات الإقليمية والدولية كي يكونوا أصحاب الكلمة الأعلى في هذه المهمة، غافلين عن ارتباط دورهم السياسي بالوزن الشعبي الذي يحوزونه على الأرض، وعن استحالة أن تمنحهم الجماعات المسلحة ثقتها وهي القادرة على خلق كفاءات سياسية تمثلها، بخاصة أنه لا يخفى على أحد أن هذه الجماعات تجد المعارضة السياسية مارقة ومنتفعة، أو ملحدة تريد استبدال شرع الله بنظام الكفار الديموقراطي، مستثنية قلة من المعارضين بدأوا يداهنون هذه الجماعات ويدافعون عن معاركها ومسلكياتها ويغازلون صحة خياراتها الإيديولوجية والسياسية!
ثانياً، تعجب من معارضة دأبت على المطالبة بوقف العنف كمقدمة للشروع بحل سياسي، لكن بعضها الذي تفتنه اليوم “انتصارات” الجماعات المسلحة، صار من أشد المطالبين باستجرار سلاح نوعي للمقاتلين، ومن أكثر المتحمسين للحسم العسكري، من دون تحسب لدور سطوة القوة العارية في تنحية الحقل السياسي أكثر فأكثر وتهميش المجتمع المدني وتدمير الحاضنة الشعبية وخسارة فئات لها مصلحة في التغيير الديموقراطي لكنها ترفض منطق العنف والسلاح!
ويفاجئك من معارضة دأبت طوال سنوات على تقديم خطاب جامع حول الشعب الواحد وحقوق المواطنة المتساوية وتصمت بعض فصائلها عن فرض نمط الحياة الاسلاموية إرهاباً على الناس، وعن الانتهاكات التي تمارس بحق المختلفين دينياً ومذهبياً، والأنكى حين يعتبر بعض قادتها ما تم من اندفاعات عدوانية ضد منتمين لأقليات مذهبية، مجرد أخطاء عابرة يمكن تجاوزها، مكررين خطاب التطمينات عن الإسلام الرحيم والعادل، وأيضاً الاتهامات بحق كل من ينتقد ما يجري من تجاوزات، بأنه متخاذل أو خائن للثورة غرضه التعمية عن عنف النظام وتأجيل أولوية مواجهته وتغذية الفتنة التي يحاول زرعها بن الأديان والمذاهب!
وتستغرب كيف توصلت فصائل مسلحة تختلف بمرجعياتها الدينية إلى توحيد صفوفها في ما يسمى جيوش الفتح وإعلان مراكز مشتركة لقيادة معاركها، بينما لا تزال المعارضة السياسية عاجزة عن توحيد صفوفها أو ضبط إيقاع نشاطاتها، ولا تزال أطراف منها تزدري الأطراف الأخرى وتتبادل الاتهامات وأحياناً الشتائم بسبب التنازع على موقع أو منصب أو لمجرد الاختلاف في الرأي أو الاجتهاد!
ثالثاً، بينما تلتحق بالجماعات الجهادية الآلاف من الكوادر والكفاءات من الدول العربية والغربية لنصرة مشروعها الاسلاموي، يتناقص بشدة الوجود السياسي والمدني المعارض في البلاد، وإذا كان أمراً مفهوماً أن يخفت الرهان على جدوى العمل من الداخل وأن يتراجع معارضون عن وعودهم بالعودة الى الديار بسبب تفاقم الأوضاع وخطورتها، فأمر غير مفهوم أبداً إهمال التواصل مع ملايين السوريين في مخيمات اللجوء وعدم خلق قنوات سياسية ثابتة ومستقرة للتفاعل معهم بما في ذلك انتقال بعض الكوادر والقادة للعيش بينهم، ليس فقط لتخفيف همومهم ومعاناتهم وضمان سلامة إغاثتهم، وإنما أيضاً لكسب ثقتهم وتحصينهم، قولاً وسلوكاً، بالروح الوطنية والديموقراطية في مواجهة قوى متطرفة تبذل جهوداً حثيثة لجرهم الى أجندتها.
أخيراً، لا يضاف جديد عند وضع المسؤولية على النظام في ما وصلت إليه الأوضاع بتنكره لأسباب الصراع السياسية ولجوئه الى القمع والعنف المفرطين، أو إرجاع الأمر إلى سلبية المجتمع الدولي وتقصيره في وضع حد لهذه المحنة، أو القول، لتخفيف عمق المأساة، بأن الشعوب لا بد أن تدفع إثماناً باهظة لقاء تحررها. فما يجب أن يتضح في ضوء المفارقات السابقة هو المسؤولية التي تتحملها المعارضة السياسية أيضاً، ولا نقصد هنا إحلال الرغبات مكان الواقع بل رؤية ما كان يمكن أن ينجز ولم ينجز وتالياً المبادرة لتصحيح ما يمكن تصحيحية قبل فوات الأوان، إن لجهة اهتمام المعارضة السياسية بمعاناة الناس وما يكابدونه والتواصل معهم وبذل ما يفترض من جهود مخلصة لنيل ثقتهم ودعمهم، وإن لجهة مراقبة مسلكياتها لتقديم صورة صحية عن معارضة تقرن أقوالها بأفعالها وتظهر مسؤوليتها السياسية والعملية بتبني الخيار الديموقراطي وجاهزيتها للدفاع عنه والتضحية في سبيله، ضاربة المثل بنبذ الأساليب الخاطئة والتآمرية في إدارة خلافاتها واحترام التعددية والمشاركة والالتزام بقيم الحرية وحقوق الإنسان.