شكل إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما في نهاية أبريل/ نيسان الماضي بزيادة عدد القوات البرية الأميركية في سوريا مقدمة تمهيدية لإطلاق معركة الرقة التي تأخرت كثيرا. وجاء إعلان “قوات سوريا الديمقراطية” في 24 من الشهر الماضي إطلاق معركة الرقة تتمة لإعلان الرئيس الأميركي.
لكن فجأة تتغير المخططات، وتقرر الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية وقف المعارك في الرقة والانتقال إلى ريف حلب الشرق وفتح معركة منبج ضد تنظيم الدولة.
هذا التغير ترافق مع تغير آخر في الخطط لدى النظام السوري وحليفيه الروسي والإيراني، فبعد أن كانت دير الزور عنوان المعركة المقبلة عقب استعادة تدمر، يتحول الزخم فجأة نحو الرقة من ناحية جنوبها الغربي عند الحدود الإدارية لحلب وحماة.
ما هي الأسباب التي دفعت المحورين إلى تغيير خططها؟ وهل ثمة تنسيق خفي غير معلن يتقاسمان بموجبه محافظة الرقة؟ أم أن الرقة عنوان للصراع بينهما خلال المرحلة المقبلة؟
الأكراد وأميركا
تأسست قوات سوريا الديمقراطية في 11 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بهدف الاستعداد لتحرير الرقة من تنظيم الدولة، ولكن سرعان ما أوقفت معركة الرقة وفتحت معركة الحسكة.
كان السبب وراء ذلك عدة اعتبارات، منها: رفض قوات حماية الشعب الكردي خوض معارك في بيئة ديمغرافية غير حاضنة لها (الرقة) أولا، والخوف من دفع عرب السنة إلى الانضمام لتنظيم الدولة بعيد تجربة الأكراد في تل الأبيض شمالي الرقة ثانيا، فالأكراد ليس لديهم قاعدة شعبية في الرقة، بل عكس ذلك أدت تجربتهم في الحكم داخل مدن الرقة ومنها تل أبيض على سبيل المثال إلى وجود شرخ بينهم وبين السكان العرب الذين وجدوا أنفسهم أقرب إلى التنظيم من الأكراد نتيجة الأخطاء التي ارتكبها الأكراد في المحافظة.
وثالثا، عدم وجود قوة عسكرية كافية لمواجهة التنظيم في معقله، فالوضع في الرقة يختلف تماما عن الموصل في العراق، فلا يوجد جيش نظامي حليف في الرقة، وقوة الأكراد وبعض العرب لا تكفي لشن عملية تحرير واسعة لمحافظة الرقة، كما أن التنظيم مازال يحتفظ بدعم بعض العشائر العربية كعشيرتي السبخة والعفادلة.
ورابعا، لأن الأكراد وجدوا في معركة الجيش العراقي مع التنظيم في سنجار فرصة مهمة لا يمكن تفويتها في الحسكة، من أجل قطع تواصل التنظيم بين العراق وسوريا.
استمرت الاستعدادات الأميركية والكردية لأشهر عدة، حتى 24 من الشهر الماضي حين أعلنت قوات سوريا الديمقراطية بدء معركة الرقة، غير أن حسابات الحقل لم تتوافق مع حسابات البيدر، فقد اكتشفت القوات التي يغلب عليها الطابع الكردي أن التنظيم قوي جدا في الرقة، وكشفت المعارك حجم الخسائر في صفوف قوات سوريا الديمقراطية، ولهذا السبب تم التراجع عن العملية العسكرية والاكتفاء بالإعلان أن هدف العملية تحرير شمالي الرقة فقط.
ربما تكون هذه الأسباب وراء وقف العملية العسكرية في الرقة والانتقال إلى ريف حلب الشرقي والشمالي وفتح معركة منبج، ولا يتعلق الأمر هنا بالسعي لتحقيق أهداف الأكراد المتعلقة بوصل كانتون عفرين غربا بإعزاز في الشمال تمهيدا لربط مناطق غربي الفرات بشرقها، والسيطرة على كامل الحدود الشمالية السورية مع تركيا، فهذا الهدف وإن كان قائما بالفعل وسيظل نصب عين حزب الاتحاد الديمقراطي برئاسةصالح مسلم، إلا أنه لا يكفي وحده لنقل المعركة نحو الريف الحلبي بعد الاستعدادات التي تمت في الرقة.
ولعل الصمت التركي حيال ما يجري في حلب مؤشر على وجود ضمانات أميركية بأن المعركة جزء من الحرب على تنظيم الدولة، وليس لها أهداف أخرى، وتصريح رجب طيب أردوغان بأن الجزء الأكبر من قوات سوريا الديمقراطي عربي يؤكد الضمانات الأميركية.
يتعلق الأمر بنقطتين أخريين بالغتي الأهمية:
1ـ الخوف من أن تؤدي معارك الرقة وهجوم قوات سوريا الديمقراطية من شمال المحافظة نحو (مدينة الرقة) إلى دفع التنظيم للهروب نحو ريف حلب الشرقي، وتحديدا نحو مدينتي منبج والباب، وفي حال حصل ذلك، فإن تداعياته على مجمل الخارطة الإستراتيجية في حلب ستكون كارثية لكل أطراف الصراع المحليين والإقليميين، باستثناء تركيا التي ستجد في ذلك فرصة لمعركة كبرى ستكون على حساب الأكراد في حلب، وهو أمر لا تستطيع واشنطن السماح به.
2ـ ولذلك كان الهدف هو فصل خطوط الترابط للتنظيم بين الرقة وحلب. ومدينة منبج هي الخطوة الأولى في تحقيق ذلك قبيل الانتقال نحو مدينة الباب معقل التنظيم في محافظة حلب.
الهدف الأميركي الكردي يتمثل في إطباق الحصار على التنظيم داخل حدود محافظة الرقة التي تبلغ مساحتها نحو عشرين ألف كيلو متر مربع، وهي مساحة كبيرة ترتبط بحدود إدارية مع خمس محافظات (حلب، حماة، حمص، دير الزور، الحسكة)، قبيل الانتقال إلى المعركة الكبرى (تحرير الرقة).
النظام وروسيا
بعد استعادة النظام السوري لتدمر بفعل الدعم الجوي الروسي توجهت الأنظار إلى دير الزور كعنوان رئيسي للمعركة المقبلة، خصوصا أن قوات النظام بدأت إعادة ترتيب وضعها شمال تدمر، غير أن اشتداد المعارك في حلب دفع النظام وروسيا إلى تثبيت الوضع في تدمر ومحيطها وتأجيل معركة دير الزور التي تتطلب تجهيزات كبيرة لا إمكانية لها في هذا الوقت، فضلا عن بعدها وضعف تأثيرها الإستراتيجي على طبيعة الصراع في سوريا مثل حلب أولا والرقة ثانيا.
الأولوية بالنسبة للنظام وروسيا وإيران -كل حسب أهدافه- هي إحراز أكبر قدر ممكن من الانتصارات في محافظة حلب على حساب فصائل المعارضة أولا ثم على حساب تنظيم الدولة ثانيا.
لكن إعلان قوات سوريا الديمقراطية فتح معركة الرقة ثم الانتقال إلى منبج لقطع أوصال التنظيم، جعل النظام وروسيا يعيدان ترتيب أولوياتهما، فأصبحت معركة الرقة، أو على الأقل الحدود الجنوبية الشرقية لمحافظة الرقة جزءا لا يتجزأ من معركة حلب، حيث يخشى النظام والروس كما الأكراد والولايات المتحدة من خسارة المكتسبات التي تحققت في حلب إذا ما قرر تنظيم الدولة الهروب من الرقة تحث ضغط المعارك والتوجه غربا نحو معاقله في حلب (منبج، الباب).
هدف النظام كما هو واضح من خط سير قواته هو السيطرة على المناطق الجنوبية الغربية من محافظة الرقة وصولا إلى مدينة الطبقة، وهو بذلك يكون قد حقق أهدافا عدة:
أولا، تأمين خط خناصرـ إثريا الذي يعتبر خطا إستراتيجيا (200 كلم) كونه يربط عمق ريف حلب الجنوبي الشرقي بريف حماة الشمالي الشرقي.
ثانيا، تأمين منطقة واسعة تمتد من الرقة شرقا إلى خناصر غربا، وهي منطقة ستسمح للنظام بالتحرك شمالا نحو مدينة الباب في حلب، والتحرك إلى الجنوب الشرقي نحو السخنة في ريف حمص الشرقي.
ثالثا، الوصول إلى الطبقة سيسهل على النظام استكمال السيطرة على ريف الرقة الجنوبي خلال المرحلة المقبلة، وهي خطوة ضرورية لتطويق التنظيم في دير الزور من جهتين (جهة الرقة، جهة تدمر).
فضلا عن ذلك، يحاول النظام أن يكون له تواجد في جغرافية الرقة وأن لا يتركها للأكراد والقوى العربية المتحالفة معها، لا سيما بعيد كشف حزب الاتحاد الديمقراطي عن مخططاته لتشكيل فيدرالية لن تكون ممكنة من دون الرقة، وقد زاد من اهتمام النظام بالرقة تصريح صالح مسلم بأن الأكراد لن يسلموا المحافظة للنظام عقب تحريرها من تنظيم الدولة.
وأغلب الظن أن يستغل النظام وروسيا عجز قوات سوريا الديمقراطية عن التقدم من شمالي محافظة الرقة نحو مدينة الرقة، ليستكمل طريقه إلى المدينة بعد مرحلة استعادة مدينة الطبقة التي يبدو أنها ستسقط بفعل القصف الروسي الكبير.
وإذا كانت محافظة حلب عنوانا للتفاهم الأميركي الروسي المضمر، فإن محافظة الرقة إما أن تكون العنوان الأكثر تنسيقا بين الطرفين، أو تتحول مستقبلا إلى عنوان للصراع بينهما.