لم تثر معركة من الجدل والنقاش مثل معركة الرقة، مع أنها لم تبدأ عملياً، فالضجة الإعلامية التي أثارها إعلان قوات سوريا الديمقراطية تحريك قواتها باتجاه معقل “داعش”، أضافت غرابةً وتساؤلات، وحركت هواجس خامدة كثيرة في داخل سورية وخارجها. بدأت المعركة صوتياً بعد سلسلة زيارات لمسؤولين أميركيين إلى المناطق الكردية في شمال سورية، إذ سبق إعلان قوات سوريا الديقراطية تحركّها على محور عين عيسى إلقاء طائرات أميركية مناشير فوق مدينة الرقة، تدعو السكان إلى مغادرة المدينة، والابتعاد عن مقار “داعش” ومراكزها، لكن الأيام القليلة التي تلت كشفت أن هذه المعركة افتراضية أكثر مما هي حقيقية، وأن معركة تحرير الرقة التي هي معركة حياة أو موت لداعش لا يمكن أن تكون بهذا الشكل، من حيث عدد القوات ونوعية الأسلحة والخطط العسكرية والجهات المشاركة.
من دون شك، معركة الرقة استراتيجية، لا لأنها معقل تنظيم داعش وعاصمته في سورية، بل لأن جغرافية الرقة حيوية ومهمة لمجمل سورية، وحتى العراق وتركيا، إذ إنها تربط بين خمس محافظات سورية (الحسكة، ديرالزور، حماة، حمص، حلب). وعملياً السيطرة عليها تعني السيطرة على شبكة الطرق وخطوط المواصلات ونهر الفرات ومنشآت نفطية ومحطات لتوليد الطاقة عديدة، كما أنها مهمة للمعارك الجارية في العراق ضد “داعش”، بسبب الترابط الجغرافي بين الرقة والموصل، حيث خطوط الإمداد وانتقال المقاتلين، كما أنها حيوية لتركيا التي تنظر بحذر شديد إلى الصعود الكردي في سورية وتطلعات الكرد إلى ربط مناطقهم في القامشلي وكوباني وعفرين جغرافياً، استكمالاً لإقامة إقليم كردي مجاور جغرافياً لتركيا.
قبل الحديث عن الرسائل الأميركية من هذه المعركة، ثمّة من يتحدث عن إشكالياتٍ تشوب القوى المشاركة في المعركة، إذ إنه على الرغم من الرهان الأميركي على قوات وحدات حماية الشعب، التي تشكل العماد الأساسي لقوات سوريا الديمقراطية، إلا أن واشنطن تبدو حذرة من دخول القوات الكردية إلى مدينة الرقة، كي لا تحدث حروبٌ وصراعاتٌ بين الكرد والعرب، خصوصاً وأن مجتمع الرقة قبلي.
وعليه، تحدثت مصادر عديدة عن تجهيز نحو خمسة آلاف مقاتل عربي سيتولون هذه المهمة، فيما ستقوم القوات الكردية بدور الإسناد والدعم. ومن جهة ثانية، ربط الكرد مشاركتهم في معركة الرقة بنوعٍ من الاعتراف الأميركي بالفيدرالية التي أعلنوها، وقد طرح وفد كردي من الإدارة الذاتية زار واشنطن أخيراً هذا المطلب، فضلا عن طلب دعم أميركي قوي لإشراكهم في مفاوضات جنيف، فيما لا تبدو واشنطن مشجعة أو على الأقل واضحة إزاء المطالب الكردية هذه.
وفي جميع الأحوال، يبدي الكرد رغبوية فائقة لهذه المعركة، لقناعتهم بأن السيطرة على الرقة ستسهل لهم تحقيق تطلعاتهم. لكن، أبعد من هذه الإشكاليات، ثمّة من يرى التحريك الأميركي لمعركة الرقة انطوى على جملة من الرسائل، الأولى لروسيا، والتي بدت أنها فوجئت، فسارعت إلى إعلان الاستعداد للمشاركة فيها، ولتقديم الدعم لقوات سوريا الديمقراطية التي ربطت موقفها بموافقة الحليف الأميركي، الذي يبدو أنه أراد القول للروس إنه موجود عسكرياً على الرقعة السورية، وقادر على خلط عناصر القوة الروسية، وإن عليهم التعاون في إخراج سيناريو جنيف إلى بوابات التوافق من خلال الضغط على النظام.
وكانت الرسالة الثانية موجهة لتركيا، مفادها بأن المتغيرات الداخلية التركية لا ينبغي أن تدفع أنقرة إلى الخروج عن القواعد السابقة على طرفي الحدود، والقيام بعمل عسكري، بعد أن لوحت أنقرة بذلك مراراً، في ظل إحساسها بأن كلفة الانتظار باتت أكثر من كلفة تدخل عسكري محدود، يغير من قواعد اللعبة، ولعل الرسالة الثالثة والأخيرة كانت موجهةً للداخل الأميركي، مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، والمؤشرات التي توحي بأن المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، هو الذي سيواجه الديمقراطيين في سباقٍ إلى البيت الأبيض، مما يعني أن إدارة أوباما باتت تنظر بأهمية إلى معركة الرقة كإنجاز ينبغي أن يتم تسخيره في معركة الانتخابات الرئاسية.
وعليه، ثمّة من يرى أن معركة الرقة مؤجلة فعلاً، إلى حين موعد الانتخابات الأميركية، وأن ما جرى حتى الآن كان أقرب إلى حربٍ إعلاميةٍ تحضيرا للمعركة الحقيقية.
العربي الجديد – خورشيد دلي