لا تزال آثار الضرب الذي تركه النظام على جسد زوجي في المعتقل بذاكرتي، لم يكن له أي ارتباط مع أي جهة ليعتقلوه فقد كان مريض قلب، يتلقى العلاج في مشفى ابن رشد بحلب وبعد تحرير مدينة ادلب شعر بالتحسن فقرر زيارتنا في ادلب التي نزحت إليها منذ أربع سنوات أنا و أطفالي الثلاثة اثر توتر الأوضاع الأمنية في منطقة الإذاعة بحلب، حيث بقي زوجي في حلب مرتبطا بعمله ويتلقى العلاج، كان يوما تعيسا عندما ألقت قوات الأمن القبض عليه في الكراج بحلب بدون تهمة فقط مجرد أنه ادلبي.
15 عشر يوما من الحجز عند النظام كافية لتجعل جسده النحيل أزرق، لم يضربوه بسوط أو عصا بل “بسبطانة الروسية” أخر السلاح، لم يساعده قلبه الضعيف على تحمل المزيد من سوء المعاملة والإقامة في السجن ، فاضطر إخوته لدفع أكثر من 300ألف ل. س ليطلق سراحه بعد صراع كبير مع الألم.
خرج من السجن إلى المشفى و أقام فيه ثلاثة أيام ليعود من جديد وبإصرار أكبر من قبل، على زيارتنا في ادلب، أخبرته أنني سآتي أنا إلى حلب وأنه سيعرض نفسه للخطر لكن تحديه في مواجهة الخطر أكبر.
أثناء الطريق كان جميع الركاب مضطرين لدفع الكثير من المال للحواجز عداك عن الحالة النفسية للشباب أثناء إنزالهم و تفتيش أسماءهم، وعند حاجز المليون المعروف في حماة إذ لا تقل يوميته عن مليون ليرة، أوقفه ضابط بحجة أنه مطلوب للاحتياط، أصيب لحظتها بتسرع في قلبه الضعيف وأظهر له أوراق الأطباء المعالجين ليثبت لهم أنه مريض، غمزه السائق بأن يدفع لهم فأعطاهم كل ما تبقى معه من مال.
كانت الاتصالات الخليوية لا تزال مقطوعة في ادلب، أعصابنا تلفت ونحن بانتظاره، غابت الشمس و أنا أحاول أن أخفي مشاعر الرعب والخوف من أن يعتقلوه مرة أخرى، كان ابني وسيم البالغ من العمر 10 سنوات قد لبس أجمل ما عنده من ثياب منتظرا والده الذي لم يراه منذ ستة شهور وكلما رأى سيارة أجرة في أول الشارع يركض مسرعا معتقدا أنها تقل والده، كنت كلما نظرت إليه من النافذة يعتصر قلبي ألما عليه فهو أيضا اشتاق لوالده.
جهزت له ما يحب من طعام كان شهر رمضان واقترب موعد أذان المغرب، و أخيرا سمعت وسيم يضج بفرحته بالحي بقدوم أبيه، ركضت وبقية أطفالي إلى خلف الباب لاستقباله وكانت صدمة لنا جميعا لما شاهدناه من تغير على شكله، كان شاحب الوجه فقد أكثر من نصف وزنه و شعره لا يكاد يظهر فقد حلقه النظام، سلمت عليه ابنتي البالغة من العمر 16 عاما وجرت بسرعة إلى الداخل وانهارت في البكاء للتغير الكبير في شكل أبيها، لحقتها وأخبرتها أن بكاءها يزيد من مرضه سوءا وعليها أن تخفي مشاعرها.
كان منهكا لدرجة أنه لم يستطع الأكل، مر أول يوم على خير واستطاع النوم، إلا أنه في الأيام المقبلة لم يستطع النوم من شدة الألم، وفي كل مرة نذهب للمشفى الميداني نعود بدون فائدة ويبقى الألم يرافقه ليل نهار، قررت أن أصطحبه إلى مشفى في تركيا بعد انتهاء العيد، انتهى العيد الذي أتى دون أن يحمل لنا الفرح كما كان سابقا، استيقظت في صباح اليوم الأول بعد العيد مباشرة لأحضر بعض الأغراض للبيت فقد أرسل لي إخوتي مالا لأحاول أن أغطي مصاريف العلاج والبيت، كان يجلس في فسحة خلف الباب لم ينم تلك الليلة، أخبرته أني ذاهبة إلى السوق و أخاف أن أرسل ابني البالغ من العمر 13 عاما خوفا من أن تأتي الطيارة وتقصف السوق كعادتها أنا أسرع منه في شراء الحاجيات.
فالألم يبدو على وجهه لأنني أقوم بدوره و أذهب للتسوق فقد تعود على مر 15 عاما أن يكفيني بما يلزمني من احتياجات دون أن اضطر للذهاب للسوق.
سوق الخضار في ادلب قريبا من منزل أهلي، اشتريت الأغراض وعايدت أهلي فلم تسنح لي الفرصة أن أعايدهم أيام العيد، كنت أجلس و أراقب الساعة فقد كان علي في الساعة التاسعة أن أعطيه الدواء، وإذ بالهاتف الأرضي يرن، إنها ابنتي أخبرتني أن والدها سقط على الأرض و أن الجيران أسعفوه لإحدى المشافي الميدانية ، خرجت مسرعة للمشفى و عندما رآني زوجي أشار لي بيده أن لا أتركه، فما من طبيب مختص بالقلب في المشفى ولا يتوفر جهاز الصدمة الكهربائية لقد أصيب بنوبة قلبية من جديد، حولنا الأطباء إلى مشفى أطمة الحدودي، في سيارة الإسعاف كان يتخبط ألما و يحاول أن يخبرني بشيء فينزع جهاز الأوكسجين عن فمه و ينزع السيروم المعلق بيده، كنت أنا وابني ليث نحاول تثبيته على السرير في سيارة الإسعاف فما من ممرض يرافقنا سوى السائق ،فسقط أرضا، أوقف ابني سيارة الإسعاف لينزل السائق ويخبرني أن قلبه قد توقف، لكني أقسم أنه كان يسمعني أخبرته أن لا يفارقنا لأجل وسيم المدلل لأجل سارة و ليث، لكن أجله انتهى إنها سنة الحياة، حاولت أن أخفف عن ابني الذي كان يضرب برأسه بجدار السيارة، عدنا إلى البيت لم يصدق أولادي ما حدث لأبيهم لقد تذوقوا طعم اليتم من أول يوم، لقد ترك كل شيء أطفاله آلامه أهله الذين لم يستطيعوا حضور دفنه خوفا من الحواجز.
و كأن قلبه يخبره أن أجله قد اقترب، فأتى ليودع أطفاله الذين لم يشبعوا من حنانه، كان وسيم ينتظر أن يسمع خشخشة الأكياس التي كان يحملها قبل مرضه فيحضر له ما يشتهي من طعام و ألعاب، كلنا يفتقد غيابه حتى أشياءه التي تركها أشعر بأنها تفتقده. استيقظ يوميا في المساء فلا أجده بجانبي، أتجول في أنحاء البيت، لعل قصة وفاته تكون كابوسا ولكني أعود باكية، مدركة أن الموت والحياة بيد الله. انتهت مسيرة حياتي في حلب التي عشت فيها 16 عاما و أنا أكن لها و لأهلها الحب والدعاء بالفرج، لم يبقى لي في حلب سوى ذكريات في شوارعها وفي بيتي الذي دفنت براميل بشار كل شيء تحتها ذكرياتنا و أحلام باتت في مهب الريح، لم يتبق لي منها سوى أطفالي الثلاثة الذين أسعى لتربيتهم وتعليمهم على أفضل وجه.
سلوى عبد الرحمن
المركز الصحفي السوري