أولى الرسائل تتمثل في عودة التظاهرات إلى شوارع العاصمة بعد انقطاع دام لفترة طويلة، بعد حملات استهداف واسعة وممنهجة نفذتها الشرطة على مدار السنوات التالية للانقلاب العسكري ضد الرئيس محمد مرسي واستولى من خلاله على السلطة في مصر. فحتى الساعات الأولى من صباح السبت، لم تتوقف التظاهرات في شوارع القاهرة على الرغم من أن المشاركة فيها قليلة، بالقياس إلى الإجماع الشعبي على الرفض، وبالمقارنة مع التظاهرات التي حدثت في أيام ثورة يناير. وكان آخر تلك التظاهرات هي التي خرجت في شارع العشرين بمنطقة فيصل في الجيزة، وشارك بها المئات، ولكن قوات الأمن تعاملت معها مثلما تعاملت مع تظاهرة أخرى خرجت عصر اليوم نفسه، إذ أطلقت الرصاص الحي في الهواء من أجل تفريقها.
رسالة أخرى حملتها تظاهرات القاهرة والمحافظات تتمثل في تحول كثيرٍ من الأصوات التي كانت داعمة بشدة للرئيس عبد الفتاح السيسي، في 30 يونيو/ حزيران 2013 وللانقلاب العسكري، إلى تبني نبرة معارضة والإقرار بأن وضع البلاد في ظل حكم السيسي يسير من سيئ إلى أسوأ، حتى وصل إلى مرحلة تتطلب الإطاحة به.
على سبيل المثال، وجه الباحث والكاتب، عمار علي حسن، رسالة طويلة إلى السيسي وختمها قائلاً: “هل تدرك الآن أن مصلحة هذا البلد تقضي أن تفسح الطريق لغيرك بعد أن ثبت لك أن المسألة أكبر مما تصورت، وكنت قد استسهلتها إلى درجة دفعتك إلى أن تقول في لحظة انتشاء أنك تعرف مشاكل مصر وتعرف كل حلولها أو تعد الناس بدولة مختلفة بعد سنتين فقط من حكمك، هل يدفعك ضميرك إلى الاعتراف بأنك وصلت إلى نهاية الرحلة؟”. بدوره، الكاتب الصحافي، أنور الهواري، رئيس تحرير صحيفة الأهرام الاقتصادي، وكان من المؤيدين لـ”30 يونيو حزيران” كتب أيضاً على صفحته على “فيسبوك”: “المشكلة موجودة قبل الجزيرتين، وسوف تظل موجودة بعد الجزيرتين، المشكلة، في ديكتاتورية السيد الرئيس، بما تعنيه الديكتاتورية من حكم فردي استبدادي مطلق، يسير بالبلاد نحو المجهول”. وأضاف: “باختصار شديد: سوف تبقى الجزيرتان، وسوف يرحل الرئيس ومعه الحكومة والبرلمان”. أما الرسالة الإضافية التي حملها يوم الجمعة، وأثارت قلقاً لدى النظام المصري، لا سيما في أوساط الأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى عودة القاهرة برمزيتها إلى التظاهر ونزول مواطنين عاديين من دون أيديولوجيا سياسية محددة، فهي تراجع نبرة الهجوم على جماعة الإخوان المسلمين من قبل القوى السياسية الأخرى، وذلك بعد فترة طويلة من القطيعة والاتهامات التي امتدت في الفترة ما بين قبل الانقلاب وحتى الآن، لخص شيئاً منها، الباحث، عامر الوكيل، فكتب على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”: “في ناس من كتر كرهها للإخوان بلعت بلاوي لكن أخيراً فاقت… الكراهية تجرك للظلم”.
قضية تيران وصنافير جعلت أيضاً معظم فئات الشعب المصري تتفق على هدف واحد، وهو الأمر الذي لم يحدث أيضاً منذ فترة طويلة. فقد أصدر صحافيون، وسينمائيون، ومهندسون، وأدباء، ومحامون، وأطباء بيانات جاءت متشابهة في معظمها واتفقت على رفض “اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير” المصريتين، باعتبارها اتفاقية باطلة بطلاناً كاملاً، ومنعدمة لمخالفتها أحكام الدستور، والحكم القضائي النهائي والبات الصادر من المحكمة الإدارية العليا، وطالبوا مؤسسات الدولة باحترام الدستور والقانون، ودماء الشهداء التي سالت دفاعاً عن الأرض المصرية.
كذلك شددوا على رفضهم كل إجراءات التنازل عن الجزيرتين، واعتبروا موافقة البرلمان عليها بمثابة إسقاط لشرعيته الدستورية والأخلاقية، وهو السقوط الذي يمتد لكل من خطط وشارك وأيد وأدار جريمة التفريط في الأرض المصرية، مؤكدين أن أرض مصر ملك لشعبها، ولا يحق لأية سلطة التنازل عن أي شبر منها أو الانتقاص من سيادة البلاد عليها، أو المصادرة على حقوق الأجيال المقبلة، وأن هذه الإجراءات الباطلة لا تلغي حق الشعب المصري في الدفاع عن أرضه، والتحرك لاستعادتها كاملة بكل الوسائل، إذا ما أصرت السلطة الحالية على التنازل عنها، خصوصاً أن هذا التنازل يضر بالأمن القومي ويضرب المصالح الوطنية العليا للبلاد في مقتل، وهو ما ظهر واضحا في الفرحة العارمة والحفاوة التي أظهرها المسؤولون الصهاينة بعد إقرار “اتفاقية العار”، بحسب البيانات التي صدرت.
أما الرسالة المزدوجة، فكانت وجود أرضية مشتركة جمعت كل القوى السياسية والشعبية، والتي دفعت قوات الأمن إلى فرض إجراءات عنيفة، في مواجهة تظاهرات الاحتجاج على موافقة مجلس النواب على اتفاقية تعيين الحدود مع السعودية التي نقلت تبعية جزيرتين استراتيجيتين في البحر الأحمر إلى السعودية. واحتشد مئات من رجال الأمن، المسلحين ببنادق إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، أمام مبنى نقابة الصحافيين بوسط القاهرة وفي الشوارع المؤدية إلى المبنى الذي شهد وقفة احتجاجية مساء الثلاثاء الماضي بعد موافقة لجنة بمجلس النواب على الاتفاقية وألقت السلطات القبض على عدد منهم. كذلك احتشد رجال الأمن الجمعة في ميدان التحرير، وهو المكان الذي يشكل رعباً من نوع خاص لقوات الأمن، إذ إنه شهد ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011 التي أطاحت الرئيس حسني مبارك بعد 30 عاماً في الحكم. كما أغلقت السلطات محطة مترو أنفاق السادات أسفل الميدان، وفي الجيزة فرضت الشرطة أيضاً إجراءات أمن مشددة أمام مسجد مصطفى محمود، إحدى نقاط انطلاق التظاهرات خلال الثورة التي استمرت 18 يوماً، وهو المسجد الذي حاول المرشح السابق لرئاسة الجمهورية حمدين صباحي، الخروج منه في تظاهرة إلا أن قوات الأمن منعته من ذلك حيث عاد إلى منزله. وكان صباحي قد قال يوم الخميس الماضي، بعد اجتماع مع معارضين آخرين للاتفاقية، إن أجهزة الأمن تمارس نوعاً من أنواع “إيقاف أي تحرك شعبي في الشارع من المنبع”.
ويفسر باحثون وسياسيون، بل وأمنيون أيضاً، منهم الخبير الأمني، العميد محمود قطري، ما جرى بأنه يعكس خوفاً وليس ثقة، محذراً من أن “الشرطة، يمكن أن تدفع مستقبلاً ثمن انحيازها للنظام ضد إرادة الشعب”.
ويبقى الاهتمام الإعلامي المحلي والعالمي بقضية التنازل عن تيران وصنافير من جهة، والتظاهرات والفعاليات المنددة بها من جهة ثانية، رسالة مهمة تسبب قلقاً بالغاً للنظام المصري، تدفعه لمزيد من الإجراءات القمعية، غير المسبوقة في تاريخ مصر وربما في مناطق واسعة من العالم، بحق وسائل الإعلام والعاملين بها، إلى الحد الذي دفع منظمة العفو الدولية إلى مطالبة السلطات المصرية بالتوقف فوراً عن سياسة حجب المواقع، ومنع وسائل الإعلام من أداء مهامها.
على أن الرسالة الأخيرة، في تظاهرات الجمعة هي أن الفجوة تزداد بين جموع الشعب المصري والنظام من جهة، وبينها وبين نظام الحكم في السعودية من جهة ثانية. فقد أصبح من الشائع جداً العثور على عبارات انتقاد للسعودية فيما ذهب البعض إلى حد وصفها باعتبارها “قوة احتلال”.
وكان حزب المصري الديمقراطي الاجتماعي وعدد من الأحزاب، والجماعات الأخرى قد دعوا إلى احتجاجات يوم الجمعة، وأيد الآلاف صفحة على فيسبوك تحمل الاسم “التفريط خيانة” تحثّ الناس على الاحتجاج في ميدان التحرير.
وصوت البرلمان، يوم الأربعاء، بالموافقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية. ومن المتوقع أن يصدق الرئيس عبد الفتاح السيسي على الاتفاقية قريباً. وكانت خطة نقل تبعية الجزيرتين للسعودية، والتي حصلت مصر بسببها على “مساعدات” بمليارات الدولارات، قد أعلنت أول مرة العام الماضي وواجهت منذ ذلك الحين احتجاجات سياسية ودعاوى قضائية.
العربي الجديد