متجنباً الصورة الكورية الشمالية، بوجود صورة القائد قبل العلم الوطني، أخضع النظام ما سماه “ماراثون سورية” والذي حمل عنوان “أنا أحب دمشق”، لإجراءات دقيقة. لا صورة لرأس النظام الحالي بشار أو أبيه، لباس أبيض من الأعلى ينتصف فيه علم سورية وخارطتها، ويتبقى أن يركض الجميع نحو نقطة أخرى.
المضحك أن الماراثون الرياضي لم يلتزم بأدنى المعايير الرياضية، فلم نجد في الصورة التي أخرجها النظام إلينا إلا شخصاً واحداً يلبس لباساً رياضياً، أما الباقون فهم بلباس وتحضيرٍ جمالي يليق بحفلة. ولم يركض عند إطلاق نار بداية الماراثون إلا شخص وحيد، وما إن ركض حتى التفت للخلف فلم يجد أي أحدٍ يركض خلفه فتوقف واتّجه للسير دون أدنى مشقة. التلفزيون السوري أجرى مقابلة مخجلة مع المنظمين، الذين أكدوا أنهم يثقون بأن المشاركة بالماراثون “ستجعل الشعب السوري سعيداً”، وأن تسمية الساحات باسم ” أنا أحب دمشق” سيكون بداية لمشاريع لا تنتهي لإسعاد الناس”. هذه الأفكار نُسخة مباشرة عن المشاريع التي تقيمها مؤسسات أوروبية في البلاد الباردة، فعلى هامش ارتهان الشباب الأوروبي للعمل والدراسة، إضافة لبرودة الطقس وغياب الشمس، وطبيعة المجتمع التي تنحو إلى فردية الأفراد وانعزالهم، فتدفع مؤسسات التنمية الشباب الأوروبي لمهرجانات عامة. هذه التجارب التي تقف وراءها عقلية أسماء الأسد، زوجة الرئيس، اقتباس رديء لأعمال مؤسسات التنمية الأوروبية، محاولة تصوير الشباب السوري بمظهر ما بعد حاجوي، أي أنه لا يحتاج شيئاً، ولا يُطالب حكومته سوى أن تشجعه على فتح الساحات لممارسة الرياضة، والرقص، والألعاب، وحماية الحفلات.
عقلية الإعلام السوري تُساير هذا، تنطلق لدعم المشاريع بتغطية إعلامية متكاملة، إلا أن الجانب الكوميدي لا يتوقف، فمن المستحيل أن يقتنع المشاهد بأن بلداً كسورية متخلفاً في التنمية، مفلساً في الحياة المدنية والسياسية، يستفيد من هذه النشاطات الخالية من المعنى الأخلاقي أو الذهني، أو أن تجعله سعيداً، فممارسة الركض، والتجمع، والحفلات الراقصة، ليست ما تنقص السوريين ليتوجهوا نحو السعادة والرخاء. هذا ما لم نتحدث عن المجزرة التي تجري في الجانب الأعلى من الخريطة السورية، ومن الريف الدمشقي الذي لا يبعد عن مكان الاحتفال سوى بضعة كيلومترات.
في الفيديو الذي أذاعه التلفزيون السوري عن الحدث أبرز أكثر من عشر أغانٍ رافقت الرياضيين المستعارين، ولم تكن هذه الموسيقى سوى أغانٍ لدعم الجيش، النظام يُركز على تمديد وقت الاحتفال في السير، ليجعل العالم يتفرج على الرقص العام دعماً لجيش الإبادة. هذا مطلوب. مؤيدو النظام في الساحل مثلاً يحتاجون لرؤية الآخرين في دمشق، وبأكبر كم ممكن وهم يحتفلون على مسامع أغان للجيش، في الساحل يُريدون التخلص من عبء الحرب وجرائمها برؤيتهم مشاركة الآخرين أيضاً في دعم الجيش. فكلما زاد الإجرام اندفع النظام للمهرجانات لجمع الحشود وجعلها تحت آلية الانفعال السطحي، أغانٍ ورقص وصراخ ورمي للألوان على الوجوه.
هنا لكي لا نظلم الشباب بانفعالنا، يظهر من الحدث أن المستهدفين شباب لم يكملوا العشرين عاماً، هذا يعني أنهم يقعون خارج دائرة الحدث التي مرت بسورية خلال الخمسة أعوام المنصرمة. بعض الشباب لا يعرف من الحرب سوى أنها مجزرة مفتوحة بين فصائل سورية وأجنبية على أرض بلادهم، وهم مفرغون من أي بُعد سياسي أو اجتماعي، فبالأصل سورية بلا حياة سياسية، والنظام ضرب كل مكامنها تحت شعار حرب الإبادة التي يقوم بها. هذه الفئة المستهدفة يتقصد النظام استغلالها لكي يشكل صورة عن سورية إعلامياً، فمن السهل عليه اجتذابها، فهي لا تشاهد الخلافات السياسية لمجلس الأمن، ولا الساسة السوريين على التلفاز، لا يجذبها سوى الحياة بمعناها اليومي الفارغ من الأصالة أو الغاية. أسماء الأسد أكثر من أي شخص آخر تلتقط هذه الفئة، وتدفعها لمشاريع شبابية مسروقة من مؤسسات عالمية، هنا يكون الإعلام قريباً من الإعلام الأوربي، يُصور مجتمعاً مرفهاً يحتاج إلى ساحة لينفلت من كل عقال معرفي أو إنساني، ويظهر بمظهر كافٍ ليشكل للنظام دلالة على أهمية وجوده التقدمي، على حساب أريافٍ سورية يقصفها العالم كُله. سورية ليست هكذا، لكن النظام يبني مجتمعاً له، لكي يصوره دوماً بوصفه داعماً له، وصامتاً عن جرائمه، وتكون سعادته بأن يرقص في ساحة يحميها جيش إبادة.
نوار جابر_العربي الجديد