لا يخرج التحرك الغربي تجاه الصراع السوري، ولا سيما حرب الإبادة التي يشنّها النظام السوري وحلفاؤه على شرق حلب، عن مستوى التحذيرات والوعيد بمحاسبة النظام، فيما يدفع المدنيون ثمن التراخي الدولي بمزيد من الضحايا يومياً. حتى أن أي تحرك لوقف “المذبحة” التي يشهدها شرق حلب، لا يبدو مستعجلاً بالنسبة لهذه الدول، إذ إن المسعى الذي أعلنت عنه فرنسا لعقد اجتماع للدول الغربية والعربية التي تدعم “المعارضة السورية المعتدلة”، لن يتم قبل شهر ديسمبر/كانون الأول المقبل، على الرغم من أن النظام السوري وروسيا يبدوان مستعجلين لإخضاع حلب كاملة قبل تسلّم الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، مهامه في 20 يناير/كانون الثاني وفي ظل الابتعاد الأميركي عن الملف السوري مع الأيام الأخيرة لولاية إدارة باراك أوباما.
وفي هذا المشهد، تواصل الأمم المتحدة تحذيراتها، وهذه المرة من وقوع مذبحة كبرى في حال إطباق قوات النظام والمليشيات الموالية لها على شرق حلب، فيما أكدت المعارضة السورية أن ما تخشاه الأمم المتحدة يتحقق يومياً من خلال المجازر المتنقلة بالقصف الجوي والمدفعي، محمّلة المجتمع الدولي مسؤولية ما يجري.
وذكر المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أنّه قلق من احتمال أن يشن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، هجوماً جديداً لسحق شرق حلب قبل تنصيب ترامب رئيساً. وقال دي ميستورا، أمام مجموعة من المشرعين الديمقراطيين الاشتراكيين مساء الثلاثاء: “أشعر بقلق بالغ بشأن ما يمكن أن يحدث قبل 20 يناير”، مضيفاً: “نحن قلقون للغاية من احتمال إطباق الأسد، بشكل وحشي وعدواني على ما بقي من شرق حلب، قد يكون ذلك مأساوياً”. وأضاف: “نخشى أن نكون أمام فوكوفار جديدة، ونحن بحاجة إلى دفع أي ثمن لتجنب ذلك”، في إشارة منه إلى المذبحة التي ارتكبتها القوات الصربية في أغسطس/آب من عام 1991، بحق مدنيين في مدينة فوكوفار الكرواتية.
مقابل ذلك، برز تحرك فرنسي تجاه الصراع السوري. فقد أعلن وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك آيرولت، أمس الأربعاء، أن بلاده ستنظم “في الأيام المقبلة” اجتماعاً للدول الغربية والعربية التي تدعم “المعارضة السورية المعتدلة”، مؤكداً أن “التحرك ملحّ” في مواجهة قصف حلب.
وقال آيرولت، في ختام اجتماع لمجلس الوزراء، “اتخذت مبادرة بأن أجمع في الأيام المقبلة في باريس الدول الصديقة للديمقراطية السورية، للمعارضة الديمقراطية السورية، أي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وكذلك الولايات المتحدة والدول العربية مثل السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة والأردن الى جانب تركيا”. وقال المتحدث باسم الحكومة الفرنسية ستيفان لو فول، إن الاجتماع سيعقد في بداية ديسمبر/كانون الأول المقبل.
كما أكد وزير الخارجية الفرنسي أنه “لا بد أن تكف الأسرة الدولية عن غض النظر. فما يجري هناك واقع رهيب، والتحرك أمر ملح”. ولفت إلى أن “هناك مليون شخص محاصر، ليس فقط في حلب وإنما في حمص والغوطة وإدلب، وهذا هو واقع الأمر في سورية”، مضيفاً “تأخذ فرنسا بزمام المبادرة لمواجهة استراتيجية الحرب الشاملة التي يتبعها النظام وحلفاؤه الذين يستفيدون من حالة عدم اليقين الحالية في الولايات المتحدة”.
كما طالب آيرولت أن يتبنى مجلس الأمن الدولي قراراً يدين استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية، وينص على عقوبات ضد هذه الأفعال “غير الإنسانية”. وقال: “ليس في نيتنا ألا نفعل شيئاً. معركتنا للدفاع عن السكان المدنيين السوريين مستمرة”. وأضاف: “ثبت أن النظام والدولة الإسلامية استخدما أسلحة كيماوية ومن ثم نحن نحتاج الآن إلى عقوبات وهذا هو القرار الذي نريده من الأمم المتحدة. يجب أن يتوقف المجتمع الدولي عن غض الطرف”.
ولا يبدو النظام وبدعم من حلفائه، مهتماً بالوعيد الأوروبي، إذ لم يتردد في استخدام الوسائل الأكثر وحشية في محاولاته المتلاحقة لهزيمة المعارضة في مدينة حلب، ولكن مساعيه تصطدم دائماً بمقاومة شرسة، ولا يجد إلا المدنيين لصب جام غضبه عليهم، ما خلق أزمة إنسانية في شرق حلب، يحذر ناشطون في المجال الإغاثي والطبي من تفاقمها وتحولها إلى “كارثة” غير مسبوقة.
وأكد مدير الطبابة الشرعية في أحياء حلب المحاصرة أبو جعفر، أن ما يخشاه دي ميستورا والمجتمع الدولي “يتحقق فعلياً كل يوم في الأحياء المحاصرة في مدينة حلب”، مشيراً في حديث مع “العربي الجديد” إلى أن الطيران الروسي وطيران النظام وقواته، والمليشيات الطائفية الإيرانية “ترتكب كل يوم مجازر بحق المدنيين، وتستبيح كل شيء في شرق حلب”. وأوضح أبو جعفر أن “الموت بات يومياً في أعرق مدينة سكنها الإنسان”، مضيفاً: “لم يترك نظام الأسد سلاحاً إلا واستخدمه بما فيها الأسلحة المحرمة وفق المواثيق والمعاهدات الدولية، منها غاز الكلور والقنابل العنقودية والفوسفورية”.
واعتبر أبو جعفر أن المدنيين المحاصرين والذين يتعرضون يومياً للمجازر المتنقلة “لم يعد تهمهم الأمم المتحدة، وتصريحات مسؤوليها”، مضيفاً “إذا كان الموفد الأممي يخشى من وقوع مجازر، فإني أقول له، إن ما يخشى منه يقع يومياً”، مردفاً: “منذ خمس سنوات وهم يكذبون علينا. نحن نُذبح يومياً وهم يتفرجون. يومياً تهدّم المستشفيات والبنى التحتية، وبعد ذلك تأتي الأمم المتحدة وتقول، إنها تخشى من ارتكاب المجازر في حال اقتحام قوات النظام والمليشيات لشرق حلب، وكأن ما يجري الآن لا يثير قلقهم”.
وأشار إلى أن الجهات الطبية المتخصصة في حلب لم تعد قادرة على توثيق أعداد القتلى والمصابين بسبب تدمير المراكز الصحية من طيران النظام والطيران الروسي، لافتاً إلى أن الإحصائيات التي تصدرها الطبابة الشرعية لم يكترث المجتمع الدولي بها، ولم يتحرك من أجل إيقاف المذبحة بحق آلاف المدنيين، خاتماً حديثه: “نحن نُقتل يومياً على دفعات”.
من جهتها، حمّلت المعارضة السورية المسلحة المجتمع الدولي مسؤولية ما يجري في حلب من مجازر، وتدمير مرافق حيوية أبرزها المستشفيات على يد قوات النظام. وقال عمار سقار، المتحدث العسكري باسم تجمع “فاستقم كما أمرت” وهو من أبرز فصائل المعارضة السورية في حلب، إن صمت المجتمع الدولي طيلة سنوات “أعطى الأسد وحلفاءه ضوءاً أخضر لارتكاب المجازر”، مضيفاً في حديث لـ “العربي الجديد”: “من ادعى صداقة الشعب السوري يقف متفرجاً على مآسيه، في حين أن رؤوس الإجرام، والإرهاب في العالم تساند العصابة المجرمة المتمثلة بنظام الأسد”.
ميدانياً، لا تزال قوات النظام السوري والمليشيات المساندة لها تحاول اقتحام الأحياء الشرقية لحلب، ولكنها تُواجَه بصد من قوات المعارضة في جبهتي هنانو وكرم الطراب. فيما يواصل الطيران الحربي قصف شرق حلب ما أدى إلى مقتل وإصابة مدنيين في أحياء: ضهرة عواد، هنانو، الفردوس، الشيخ خضر، المواصلات القديمة، كرم البيك، الإنذارات، وقرلق. وأكد عمار سقار المتحدث باسم تجمع “فاستقم كما أمرت”، أنه لم يعد هناك شيء يمكن أن تُطلق عليه تسمية “جيش النظام” في حلب، مشيراً إلى أن هذا الجيش “تلاشى”، وأن من يقاتل المعارضة، اليوم، في المدينة مليشيات وقوات إيرانية، مؤكداً أن “إرادة الثوار أكبر من أن تكسر”، على حد تعبيره. وكانت المعارضة السورية رفضت كل الدعوات لخروجها من حلب، مشددة على أنها لن تسلّم أكبر مدن الشمال السوري إلى مليشيات إيرانية مهما كلّفها ذلك من ثمن.
فيما كان نظام الأسد قد رفض أفكاراً أممية من أجل تخفيف معاناة المدنيين، آخرها مقترح الموفد الأممي بـ”إدارة ذاتية” في الأحياء الشرقية، وهو ما رفضته المعارضة أيضاً معتبرة أن “أنصاف الحلول” لا تنهي مأساة نحو 300 ألف مدني محاصرين منذ عدة أشهر، وتُلقي عليهم طائرات النظام ومقاتلات روسيا مختلف أنواع الأسلحة ما حوّل الحياة إلى جحيم في مدينة باتت “الأخطر” على مستوى العالم.
في موازاة ذلك، رفعت موسكو سقف انتقادها العلني للموفد الأممي إلى سورية، إذ اتهمه وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، الثلاثاء بـ”تقويض” قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي يطلب تنظيم محادثات سلام شاملة بين الأطراف السورية من دون شروط مسبقة”. وكانت مفاوضات السلام بين المعارضة السورية ونظام الأسد قد توقفت في أبريل/نيسان احتجاجاً من المعارضة على عدم تنفيذ الشق الإنساني من القرار المذكور والداعي إلى فك الحصار عن مناطق محاصرة، وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية، وإطلاق سراح المعتقلين. ويؤكد “الحنق” الروسي على الموفد الأممي فشل المساعي الروسية في تحويل الأمم المتحدة إلى “شاهد زور” في المذبحة المفتوحة التي تُرتكب في سورية، وفي حلب على وجه الخصوص، وهو ما سيقف حائلاً أمام الجهود المبذولة لإيجاد حل سياسي ذي مصداقية له قواعد ثابتة تمكّنه من الصمود.
العربي الجديد