كشفت الرسائل المتكررة التي وجهتها طهران إلى القاهرة عن طريق مسؤوليها وحلفائها في المنطقة، تزامنا مع النجاحات التي حققتها عملية عاصفة الحزم في اليمن، عن سعي إيراني محموم لإفساد العلاقات المتينة القائمة بين مصر والسعودية. محاولات إيرانية توحي بعمق حالة اليأس التي طغت على الإيرانيين أمام عجزهم عن فعل أي شيء لحلفائهم، إزاء متانة التحالف العربي الذي ضرب أحلامهم التّوسعية في مقتل.
حملت الأيام الماضية مجموعة من الرسائل غير المباشرة من طهران إلى القاهرة، بعضها عن طريق مسؤولين إيرانيين، والبعض الآخر عن طريق حسن نصرالله، زعيم “حزب الله” اللبناني، رغبة في تحييد دور مصر، وفكّ تحالفها مع المملكة العربية السعودية، لتبقى بعيدة عن الصراع الدائر في اليمن، وتتراجع عن عزمها التدخل برّا.
وكشف مصدر دبلوماسي لـ”العرب” أنّ العلاقات بين مصر وإيران على وشك أن تصل إلى المنطقة الشائكة، حيث بدأت القاهرة تدرك أن جهود التعامل بمرونة مع طهران لم تعد مجدية، لأنّ إيران فهمتها على وجه الخطأ، وحاولت خداع مصر عبر سلسلة من الرسائل المتناقضة.
وكان الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، قد ترك مسألة التدخّل البرّي مفتوحة، عندما أشار قبل أيام قليلة إلى أنّ المشاركة المصرية في عاصفة الحزم، التي أعلنت وزارة الدفاع السعودية عن توقفها بعد نجاحها في “إزالة التهديد على أمن المملكة والدول المجاورة، من خلال تدمير الأسلحة الثقيلة والصواريخ البالستية التي استولت عليها الميليشيات الحوثية والقوات الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح من قواعد ومعسكرات الجيش اليمني”، تقتصر على القوات الجوية والبحرية.
لكن معلومات سبق أن حصلت عليها “العرب”، أكّدت أن التدخل البري ما زال غير مستبعد، إذا عاد الخطر من جديد، وأن المناورات العسكرية بين مصر والسعودية هي مقدّمة لهذه الخطوة، وتنطوي على جملة من الرسائل لجماعة الحوثي وحليفتها إيران، كما أنها تندرج في إطار استراتيجية راسخة للدفاع المشترك تجاه أي أخطار تهدد المنطقة، فقد قصدت القاهرة والرياض من وراء توقيت الإعلان عن المناورات ردع إيران، التي بادرت بطرح مبادرة للتسوية، وبعثت بعدّة إشارات تفيد برغبتها الظاهرة في الحل السياسي.
السعي إلى تحييد الدور المصري
لدى قراءته للتطورات الحاصلة على الساحة الإقليمية، قال محمد عباس ناجي، المتخصص في الشؤون الإيرانية والخبير بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، في تصريحه لـ “العرب”، إنّ الرّسائل التي وجهتها طهران للقاهرة تؤكّد أنّها تسعى إلى تحييد دور مصر، وخلق رأي عام في الشارع يرفض التدخل عموما، والبرّي خصوصا، حتّى تضمن للحوثيين فرصة أفضل في المفاوضات.
وأشار عباس ناجي إلى أنّ هناك خلافا حول عدد من الملفات الإقليمية، حيث أيّدت مصر بشكل كبير عاصفة الحزم وشاركت بقوات جوية وبحرية، وشددت مرارا على أنّ أمن الخليج جزء من الأمن القومي المصري وأن التنسيق المشترك يتجاوز البعد اليمني الظرفي إلى البعد الاستراتيجي طويل المدى، الأمر الذي لم يلق ارتياحا من جانب إيران وحليفها حزب الله اللبناني.مدحت حماد: طهران لا تستطيع فتح جبهات جديدة للحرب، سواء مع دول الخليج أو مع مصر
وأوضح ناجي أنّ طهران كانت تراقب بحذر سياسات مصر في المرحلة الماضية، خاصّة تجاه اليمن وسوريا، وقد حسمت القاهرة الموقف، ودخلت على طرف نقيض لإيران وعزّزت تحالفها مع السعودية، وانخرطت في حرب اليمن ضدّ الحوثيين، وكان إسراف المسؤولين المصريين في الحديث عن أمن الخليج بمثابة مواجهة مع إيران، طفا معها الخلاف المكتوم بين البلدين إلى السطح.
وحول ما ردّدته دوائر إقليمية بشأن وجود وساطة بين السعودية والقاهرة من ناحية، وإيران من ناحية أخرى، لمنع الوصول إلى الصراع المذهبي المباشر، قال عباس ناجي إنّ الوساطة قد تكون مفهومة، حال التوصّل إلى حلول مقبولة من الجميع، حيث يسلّم الحوثيون أسلحتهم وينسحبون إلى صعدة، ويعترفون بشرعية الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي.
وبالفعل فقد تحقّق هذا الهدف، بعد أن دعا الحوثيون وجهاء في قبائل على صلة قوية بالسعودية للتوسط لديها لوقف الضربات الجوية مقابل التزام الميلشيا الطائفية المرتبطة بإيران بالانسحاب إلى مواقعها القديمة في صعدة.
وتتجلى المساعي الإيرانية لإفساد العلاقة بين مصر والسعودية بشكل واضح، من خلال الرسالة التي وجهها حسن نصرالله، زعيم “حزب الله” اللبناني، إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي والتي قال فيها “مثلما ما منعت مصر هدم قبر رسول الله أطالبك بمنع السعودية من هدم اليمن”.
وتابع نصر الله، خلال كلمة بثتها قناة العالم الإيرانية، منذ أيام قليلة “أحبّ أن أتقدم بالشكر للبرلمان الباكستاني الذي رفض دخول بلاده الحرب على اليمن”، في إشارة تحمل معنى اللوم والعتاب للقاهرة، التي اتّخذت موقفا معاكسا لما أقدمت عليه إسلام آباد، وفيها تحريض غير مباشر للقوى السياسية في مصر للضغط على الحكومة لـ”فرملة” التدخل المصري في اليمن.
وفي سياق متّصل، قال الرئيس الإيراني حسن روحاني، في كلمة ألقاها في استعراض عسكري أقيم في طهران، السبت الماضي، بمناسبة يوم الجيش إنّ “قتل المدنيين في اليمن لن يعود على السعوديين بالفخر أو القوة”.
ومع أنّه لم يأت على ذكر الدور المصري، إلاّ أنّ مراقبين أكدوا أن طهران مصممة على أن تحدث شرخا في العلاقة القائمة بين الرياض والقاهرة، أملا في إضعاف الأولى، وهو ما تفسّره عملية توزيع الأدوار التي تقوم بها طهران والجهات التابعة لها، سواء على المستويين السياسي أو الإعلامي.
مخططات مكشوفة
لفت حسين أمير عبداللهيان، مساعد وزير الخارجية الإيراني في الشؤون العربية والأفريقية، قبل الإعلان عن توقف عملية عاصفة الحزم، إلى أنّ بلاده تتوقع من مصر أن تقدّم تعاونا أكبر للإسراع في البحث عن حلّ سياسي لليمن، ومنع المجازر واتّساع نطاق الصّراع.
وأشار، خلال استقباله السفير خالد عمارة، رئيس مكتب رعاية المصالح المصرية في طهران، مؤخّرا، إلى الظروف الحساسة في المنطقة، والمكانة الهامة والمؤثرة لمصر في العالمين العربي والإسلامي، قائلا إن بلاده “تنظر إلى أمن المنطقة كمجموعة مترابطة، وأن إيران ومصر باعتبارهما بلدين كبيرين ورئيسيين، فإنهما يتحملان مسؤولية أساسية ودورا كبيرا في صيانة استقرار المنطقة وأمنها”.
ويرى مراقبون أنّ الخطاب المراوغ لعدد من المسؤولين الإيرانيين، يكشف مخططات إيران، ويُضاعف القناعات السائدة لدى دوائر إقليمية كثيرة بأنّ “فصل العلاقة بين القاهرة والرياض” يعدّ هدفا رئيسيا بالنسبة إلى طهران، التي تتخوف من الدخول المباشر على خطّ الحرب في اليمن، وتسعى إلى كبح جماح السعودية عن طريق إبعاد مصر عنها.
وكانت السعودية، إبان عهد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وقفت بقوة إلى جوار مصر، عقب اندلاع ثورة 30 يونيو 2013، ودعمتها اقتصاديا وسياسيا، في مواجهة واحدة من أشد التحديات صعوبة، وكان موقف الرياض حاسما في تجاوز القاهرة حزمة من المصاعب الإقليمية والدولية.
وقال عبداللهيان إن بلاده تدعم العلاقات الوثيقة بين مصر والشعب اليمني، محذّرا من تحوّل الساحة اليمنية إلى ساحة جديدة لنموّ المتطرفين المؤيدين لـ”داعش”، ما يهدد سيادة دول المنطقة ومصالحها. الأمر الذي قابلته القاهرة باستهجان، مؤكدة على لسان السفير ياسر مراد، مساعد وزير خارجيتها، أنّ التصريحات الإيرانية “تنم عن تناقض غير مفهوم”.
طلعت مسلم، الخبير الاستراتيجي، قال لـ “العرب” إنّ عاصفة الحزم أكّدت للعالم مدى متانة الدبلوماسية العربية، وصلابة العلاقات المصرية السعودية، التي تمهد الطريق أمام عودة اليمن إلى استقراره، وتوقف محاولات إيران المتكررة لزعزعة أمن المنطقة، بعد أن سعت إلى تفكيك اليمن من خلال دعم ميليشيات الحوثيين.
بدوره قال مدحت حماد، رئيس المركز المصري للدراسات السياسية والخبير في الشؤون الإيرانية، إنّ طهران لا تستطيع فتح جبهات جديدة للحرب، سواء مع دول الخليج أو مع مصر، مشيرا إلى أن ذلك لا يعني أنها تهمل دعم المتمردين الحوثيين في اليمن، مضيفا أنها لن تتوانى عن تقديم الدعم المالي والعسكري لهم، مدفوعة بالواجب المذهبي.
واستبعد حماد في تصريحات لـ “العرب” أن تدعم طهران الحوثيين بقوات عسكرية، بعد النجاحات التي حققتها عملية عاصفة الحزم التي إلى تهدف فرض الاستقرار في اليمن، ووقف محاولات العبث بأمن المنطقة.
وأوضح أن أبرز الخسائر الإيرانية أنها فشلت في تطويق مصر والسعودية من ناحية الجنوب، حيث كانت تسعى لوضع الثانية بين فكي كماشة؛ العراق وسوريا من الشمال واليمن من الجنوب، وترمي إلى استمرار انكفاء الأولى (مصر) على مشاكلها الداخلية، لتنفرد بالسيطرة على المنطقة، في ظل غياب أي قوة عربية رادعة.
العربArray