مجزرتان في سوريا، واحدة استهدفت مدنيين بينهم أطفال في سوق في أريحا في إدلب، وأخرى، استهدفت جنوداً تابعين للنظام في العاصمة دمشق. الأولى منفّذها واضح، النظام وروسيا والميليشيات المساندة، فيما الثانية، منفّذها رهن التحليلات والتكهنات التي تراوحت بين الصراع داخل حلفاء النظام، وبين تنفيذ العملية لتوظيفها سياسياً، والاستفادة منها في المفاوضات الدستورية الحالية، فضلاً عن احتمال وقوف “داعش” وراء الهجوم.
وضوح هوية المنفذ في إدلب وغموضه في دمشق، جدد النقاش السوري حول الضحايا، فالبعض جمع بين التلامذة الذاهبين إلى مدرستهم في أريحا، والجنود العائدين إلى بيوتهم في الشام، وقد صاروا جميعهم أشلاء، ليخلق إدانة مشتركة، ما ولد ردود فعل رافضة لهذا التعميم والخلط “الخبيث” بين الضحايا و”الشبيحة”.
بدهي، أن المجزرة الأولى لا لبس في إدانتها، انطلاقاً من وضوح منفذها وهوية ضحاياها، لكن، في الوقت نفسه، لا بد من توسيع الإدانة قليلاً لتشمل هدف النظام من تنفيذها، فنحن لسنا في عام 2001 حين كان الحكم في دمشق، يقصف لإخضاع سوريين انتفضوا ضده. الهدف اختلف كلياً، وأصبح ضغطاً متواصلاً لتبديل موازين القوى التي صيغت ضمن معادلات أستانة بشراكة تركيا وإيران. وضع المجزرة في سياقها السياسي، لا يغير من طبيعة القاتل ومسؤوليته عنها، لكنه قد يساعد في نقاش المجزرة الثانية التي وقعت في دمشق وراح ضحيتها جنود، على الأرجح، هم مختلفون عن أولئك الذي استبسلوا دفاعاً عن النظام مع انطلاق الثورة ضده. صراع طويل وانهيار اقتصادي و”انتصار” بلا مردود، تحولات جعلت جيش النظام، أقل استعداداً ليكون نفسه، لحظة 2011. هذا لا يمنع أن يكون من بين قتلى انفجار الحافلة، من هو مستعد للذهاب إلى أريحا وقتل أطفالها انطلاقاً من تعبئة طائفية، لكن، أيضاً، قد يكون من بين الضحايا، من لا يبالي بالصراع كله وينتظر تسريحه من الجيش، للخروج من البلد نهائياً. التمايزات داخل جيش النظام مهمة جداً ليس للفصل بين الطرفين، جيش ونظام، وإنما لإيضاح، سيولة الأول وصلابة الثاني.
ظاهرة الانشقاقات في بداية الثورة، أوضح دليل، على عدم فهم تلك السيولة. الانشقاقات كان لها بعد سياسي مرتبط بالصراع، طوّر إلى بعد أخلاقي يختصر الجيد من العسكر بمن “يرفض قتل شعبه”، أي، بإمكان ضابط أن يكون قد أشرف على قتل مدنيين في أحداث حماه، ويصبح، عسكرياً جيداً، طالما انشق عن جيش النظام. بقدر ما أن التبرير المنطقي لهذا الضابط أنه لم يستمر بالخطأ، بقدر ما أن، الخطأ المعرّف هنا، الاستمرار في جيش النظام، محكوم بعوامل اجتماعية، والتأثير الفردي فيه أضعف مما نتصور. ثمة الكثير من الجنود، غير مسيسين، والثورة بكل ما تملك من أحقية لم تحدث تحولاً في نظرتهم، كما أن علاقتهم مع فكرة خدمة العلم، أقرب إلى فترة يجب أن تمضي بأقل الخسائر، وبعضهم يدفع رشاوى لضابط من هنا أو مسؤول من هناك، ليمضي الأوقات الأطول من خدمته في منزله. بمعنى، خدمة العلم بالنسبة إلى هؤلاء، فترة تقطيع، تستأنف بعدها الحياة من زواج وبناء أسرة. مع اندلاع الثورة، وتحولها إلى صراع عسكري، أصبحت كلفة هذه الفترة أعلى، ما دفع كثيرين إلى، مغادرة البلاد خوفاً من الاحتياط. ما يهم، بهذه الشريحة في الجيش، أن المندرجين فيها، غير مسيسين، ويريدون تمضية فترة خدمتهم فقط، باعتبارها شراً لا بد منه، ليسوا معنيين لا بالثورة ولا بالنظام، بقدر ما أنهم معنيون بحياتهم الاجتماعية التي تمر فيها خدمة العلم، كفترة اضطرارية.
وربما يكون “منظرو” الثورة من حيث لا يدرون ساهموا في جعل هذه الشريحة غير مرئية، عبر وضعها بين خيار الانشقاق أو التشبيح، فيما هناك جندي، غير معني بالصراع كله، وكل طموحه استئناف حياته الاجتماعية. مثلما أراد النظام، الجيش كله “شبيحة”، الكثير من أنصار الثورة أراده “منشقين”، في إغفال للبعد الاجتماعي الطاغي عند بعض المجندين، وغياب البعد السياسي. وثمة فرضية، وراء ذلك، أن الثورة يجب أن تغير حياة الناس وبينهم العسكريون، لمجرد أنها ضد النظام، من دون وجود ترتيبات جديدة، تتعلق بحياة الناس وتضمن انتقالهم من وضع إلى آخر.
هذا التحليل، لا يلغي، بطبيعة الحال، نقد ما سمي بـ”الرماديين”، وعدم اشتراكهم في التغيير وتحسين شروط حياتهم، لكنه لا يغفل في الوقت نفسه، نقص السياسة في سوريا، وضعف تأثيرها في حياة أفراد ضيّق الاستبداد أفقهم، ووضعهم ضمن شروط استقرار زائف يحظى بتأييد الطبقات المدينية الوسطى وعدد واسع من الأقليات.
قد يكون ضحايا حافلة دمشق، من شريحة اللامبالين في الجيش، وربما من شريحة المعبئين والمقتنعين بإبادة مناطق المعارضة، لكن المشكلة أن لحظة اتخاذ قرار المعركة من قبل النظام، ضد منطقة ما، تذوب الفروق، في جسم واحد، وهذا أسوأ ما في الاستبداد، تذويب الفوارق وتضييق الخيارات.
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع